خلاف بين فرنسا وألمانيا بسبب جريمة حدثت قبل 28 عاما

والد الضحية الفرنسي كان يقيم ويعمل في الدار البيضاء مع أسرته.. ويسلم الطبيب الألماني المتهم إلى العدالة

الأب خلال مظاهرة نظمها ضد المتهم بقتل ابنته
TT

طرأت، الأسبوع الماضي، تطورات جديدة على ملف جنائي يثير خلافا قانونيا ما بين فرنسا وألمانيا منذ 28 عاما؛ فقد حصلت قاضية تحقيق فرنسية على شهادات جديدة تدين طبيبا ألمانيا متهما بقتل ابنة زوجته الفرنسية، بعد اغتصابها. وشغل الملف الذي بات يعرف باسم «قضية الدكتور كرومباخ» وسائل الإعلام في البلدين، خصوصا أن والد الضحية تدخل بنفسه لاعتقال المتهم، ووضعه تحت تصرف العدالة في فرنسا، بعد رفض السلطات الألمانية، على مدى عقود، تسليمه لها.

ومنذ أكثر من ربع قرن، يجاهد أب فرنسي يدعى أندريه بامبرسكي، في سبيل أن يسوق أمام القضاء الطبيب الألماني دييتر كرومباخ، المتهم بقتل الطفلة كالينكا بامبرسكي (14 عاما) التي وجدت ميتة، في ظروف غامضة، في فراش الطبيب الذي كان قد تزوج من والدتها. ويبلغ الدكتور كرومباخ من العمر، حاليا، 75 عاما. وهو محتجز منذ سنتين في سجن «فرين»، جنوب باريس، في انتظار استكمال شروط محاكمته التي يبدو أنها باتت قريبة، لا سيما بعد أن أعلنت قاضية التحقيق بريجيت جوليفيه أنها سجلت شهادات لثلاث مريضات ألمانيات، أفدن فيها بأنهن تعرضن للاغتصاب في عيادة الدكتور كرومباخ، بعد أن تولى تخديرهن بحقنة منومة. ومن مستجدات القضية، أيضا، دخول دانييل، والدة كالينكا كطرف في الادعاء على المتهم، على الرغم من أنها ارتبطت معه بقصة حب كانت سببا في طلاقها من زوجها وارتباطها به.

وفي حين قلل محامي الدكتور كرومباخ من قيمة التطورات الجديدة، معتبرا أنه لا علم للقضاء الألماني بها، فإن الأضواء عادت تتسلط على الملف الذي يروي تفاصيل معركة قضائية مثيرة تدور رحاها على جانبي الحدود الألمانية - الفرنسية. فقد تصدعت حياة أندريه بامبرسكي منذ يوليو (تموز) 1982، أي من ذلك اليوم الذي تلقى فيه مكالمة هاتفية تبلغه بما لا يمكن أن يخطر له على بال: «لقد عثروا على ابنته المراهقة ميتة في سرير رجل يعرفه جيدا.. إنه الزوج الجديد لطليقته».

وكانت كالينكا، ابنة الأربعة عشر ربيعا، قد ذهبت في ذلك الصيف، بصحبة أخيها الصغير، لتمضي الإجازة في بيت والدتها. لقد انفصل والداها، واقترنت أمها، بعد الطلاق، بطبيب ألماني متخصص في أمراض القلب هو الدكتور كرومباخ. وكان من المفترض قضاء الإجازة في المنزل الذي يملكه هذا الأخير على ضفاف بحيرة كوستانس في ألمانيا.

كيف ماتت كالينكا، ولماذا وجدت جثتها في سرير زوج أمها؟ زعم كرومباخ أنه كان قد حقنها بمادة كيماوية غير ضارة، لأنها أرادت أن تكتسب اللون البرونزي بسرعة. ثم زعم أنه تمكن من إعادة النبض إلى قلبها الذي كان قد توقف بعد الحقنة، لكنها فارقت الحياة بسبب مضاعفات غير متوقعة.

ذهبت الشرطة الألمانية للتحقيق في الوفاة، والغريب أن المحققين لم يرتابوا في أي شيء. إنهم لا يريدون الدخول في تفاصيل محرجة مع طبيب مشهور ومحترم مثل كرومباخ، وهكذا حُفظت القضية ضد مجهول. أما المشتبه فيه، فلم تكن والدة كالينكا هي أولى زوجاته، بل الثالثة. وهما قد تعارفا في المغرب، أي عندما كان والد الضحية يقيم ويعمل في الدار البيضاء مع أسرته. وقد نشأت كالينكا هناك، وظلت في المغرب حتى سن السابعة، وكانت تدرس مع أخيها في المدرسة الفرنسية، وكذلك أطفال الدكتور كرومباخ الذي أقام لفترة هناك. وبالتالي فقد بدأت العلاقة في الدار البيضاء، لكن أندريه بامبرسكي لم يكتشف الأمر إلا بعد أن عادت الأسرة إلى فرنسا عام 1974. وذكر، فيما بعد، أن زوجته دانييل طلبت منه أن يسمح لها بأن تعمل وأن تعيش حياة أكثر مغامرة، ثم علم أن الطبيب الألماني قد استأجر شقة في مدينة تولوز، جنوب فرنسا، لكي يستقبل فيها عشيقته. ولم تكن دانييل ترى أسرتها إلا في عطلات نهاية الأسبوع، بحجة أنها تعمل في تولوز. وانتهى الأمر بأن طلبت الطلاق من زوجها، وحصل الأب على حق حضانة الطفلين، خصوصا بعد انتقال الأم للعيش في ألمانيا.

كان طلاقا وديا، على الطريقة الأوروبية المتسامحة أخلاقيا. وظلت العلاقات بين الطرفين طيبة، والأطفال يمضون عطلاتهم ما بين بيت الأم وبيت الأب، بالتناوب. وغالبا ما كانت عطلة الصيف تنقسم إلى فترتين، النصف الأول منها مع الأب، والنصف الثاني مع الأم. وكانت كالينكا طفلة رياضية تحب قضاء الإجازة في المغرب، على شاطئ البحر، حيث تمارس السباحة والتزلج على الماء.

في صيف 1982، عاد أندريه إلى المغرب لقضاء الإجازة مع ابنه فقط، لأن البنت، على الرغم من حداثة سنها، كانت ترقد في قبرها. لقد أراد أبوها أن يدفن أحزانه في نزهات انفرادية على شاطئ المحيط، مشيا على القدمين. ولم يكن قد تلقى، بعد، نسخة من تقرير الطبيب الشرعي الذي كشف على ابنته المتوفاة وتولى تشريح جثتها. ومرت ثلاثة أشهر قبل أن يعرف أنها لم تمت بفعل مضاعفات حقنة طبية، بل تم اغتصابها ثم قتلها. أما الأم، فلم تترك زوجها الثاني على الرغم من فداحة القضية، وكانت تتهم زوجها الأول بأنه غيور، ويخترع أمورا من خياله لا أساس لها من الصحة.

عادت دانييل لتقيم في فرنسا، لكنها لم تطلب الطلاق من الطبيب المشتبه فيه إلا بعد مرور ثماني سنوات. وكانت قد سمعت بأن التحقيق في ألمانيا لم يأخذ مجراه كما يجب، وأن مادة بيضاء في مكان معين من جسد ابنتها لم يتم تحليلها، وكأن المحققين كانوا متفقين على لملمة فضيحة ما. أما والد كالينكا فقد فَقَد الأمل في القضاء الألماني، واستطاع أن يفتح تحقيقا قضائيا في فرنسا. وسارت الأمور بطيئة إلى عام 1985، حين أصدر القاضي قرارا بإخراج الجثة لإعادة فحصها.

وكانت المفاجأة أن يدا مجهولة قد عبثت بالجسد الصغير، وأزالت الأجزاء الخارجية من الجهاز التناسلي للقتيلة. ومع هذه الحقيقة، صار من المستحيل إثبات تجريم كرومباخ أو تبرئته من تهمة الاغتصاب. وبقيت تهمة القتل ومحاولة إثباتها على الجاني المفترض. وقد أقر ثلاثة أطباء فرنسيون فحصوا الجثة وقرأوا تقرير الطبيب الشرعي بوصولهم إلى نتيجة تفيد بأن وفاة المراهقة تمت بسرعة ومباشرة بعد الحقنة التي حقنها بها كرومباخ. ونتيجة لهذا التحقيق أحيلت أوراق المتهم إلى محكمة الجنايات ووجهت له تهمة القتل العمد، لكن الدكتور كرومباخ لم يحضر الجلسة وجرت محاكمته غيابيا بعد أن تأجلت القضية عدة مرات.

مرت السنوات والمتهم فار من العدالة الفرنسية، وفي أوائل ربيع 1995، أي بعد 16 سنة من رحيل كالينكا، صدر حكم غيابي بإدانة كرومباخ وسجنه لمدة 15 عاما. ولم يهتم المتهم بهذا الحكم وتجاهله تماما، لا سيما أن بلده رفض تسليمه إلى السلطات الفرنسية لتنفيذ العقوبة. وبما أنه لم يكن ملاحقا في ألمانيا، فإن القانون الألماني لا يعترف بكونه مدانا في بلد آخر عن الجريمة نفسها. وهكذا واصل الطبيب حياته بشكل طبيعي، لكنه كان يتابع إصرار السلطات الفرنسية على استصدار مذكرة إلقاء قبض دولية عليه، والحقيقة أن درب العدالة طويل، كما يقول المثل، ولم يكن المحققون الفرنسيون مستعجلين في إخطار الـ«إنتربول» بالقضية. وهنا نفذ صبر والد كالينكا، وقرر أن يتولى الأمر بنفسه. وكان أهم ما يخشاه أن يهرب كرومباخ إلى أميركا الجنوبية ويصعب الوصول إليه في تلك القارة الشاسعة.

وضع أندريه بامبرسكي خطة غريبة تقوم على إقلاق راحة خصمه ومواصلة التحرش به و«تسويد عيشته». إنه يسافر إلى ألمانيا عدة مرات في السنة، وأحيانا يذهب إلى هناك لمجرد أن يقرع جرس باب كرومباخ ويقول له: «لن أتركك تعيش هادئا ما حييت». ولم يفلح الوقت ولا التقدم في العمر في المساعدة على اندمال جرح الأب الذي فقد ابنته الوحيدة والجميلة وهي في أول صباها، بل على العكس، ظل وراء المشتبه فيه، يتعقب أخباره وتحركاته، حتى طرأت أول بارقة أمل في الجو. ففي عام 1997، تقدمت مريضة شابة كان يعالجها الدكتور كرومباخ بشكوى ضده بتهمة التحرش الجنسي. وبنتيجة سير القضية، اضطر الطبيب إلى الاعتراف بأنه قام بتخديرها قبل أن يغتصبها. وكان والد كالينكا حاضرا طوال جلسات المحاكمة التي اعترف فيها المتهم بضعفه أمام الشابات الصغيرات في السن. وأصدر قاضي ألماني حكمه عليه بالسجن لمدة سنتين مع وقف التنفيذ. وكان الحكم مخففا جدا قياسا إلى واقعة الاغتصاب المتعمد.. وكأن كرومباخ كان محاطا بحماية فوقية غير مفهومة.

دفع الأب نقودا لجيران الطبيب مقابل أن يزودوه بمعلومات عنه وعن تحركاته، وطبع على نفقته الخاصة ملصقات تحمل صورة كرومباخ وألصقها على المنافذ الحدودية بين ألمانيا وكل من حدود النمسا وسويسرا، لكي يعوق تنقلاته خارج ألمانيا. وفي عام 2000 وقع المحظور، وتم اعتقال الطبيب في النمسا. لكن السلطات رفضت تسليمه إلى فرنسا بحجة أن بلده الأم لا يعترف بالحكم الصادر ضده هناك. ولم يسكت الدكتور كرومباخ، بل تقدم بشكوى ضد فرنسا أمام المحكمة الأوروبية العليا لحقوق الإنسان، بتهمة تدبير تهمة له وإصدار حكم زائف وغيابي. وأصدرت المحكمة قرارا لصالحه، لكن والد البنت القتيلة لم يستسلم، بل طلب أن يحال على التقاعد لكي يتفرغ لملاحقة قاتل ابنته. وفي عام 2002 تعاقد مع محقق سري لكي يساعده في الإيقاع بالطبيب، وكان من الأمور التي نجح في إنجازها تصوير فيلم وثائقي يروي فيه تفاصيل مقتل كالينكا وضلوع الطبيب في القضية. ولدى بث الفيلم من التلفزيون الألماني، تقدمت سيدة بشكوى ضده لأنه كان يعالجها، على الرغم من أنه كان ممنوعا من مزاولة الطب بعد إدانته عام 1997.

وشكل الأب جمعية من الأنصار لمتابعة نشاط «الخصم»، وبفضل الجمعية تم التوصل إلى أنه يمارس الطب بشكل غير شرعي، وجرت إدانته ثانية بالسجن لمدة 28 شهرا، ودخل إلى الزنزانة بالفعل، لكن والد كالينكا لم يكن راضيا عن العقوبة ويراها دون الاستحقاق. لقد أعلن الكهل الفرنسي معركة حياة أو موت بينه وبين الطبيب الألماني، ولم تصل الحرب إلى فصلها الحاسم إلا قبل نحو عام. ففي ذات مساء، رن جرس الهاتف في منزل والد كالينكا ليقول له المتحدث: «إن كرومباخ موجود على الأراضي الفرنسية وفي مدينة مولوز الحدودية، بالتحديد». وقام الأب وساق سيارته في اتجاه الحدود الشرقية لفرنسا ووصل إلى مولوز مع الفجر. وهناك وجد الطبيب في الشارع العام، غير بعيد عن قصر العدل، وكان مقيد اليدين ومكمم الفم وجريحا جرحا سطحيا. ولم يعرف أحد كم دفع أندريه بامبرسكي للمخبر الذي قدم له تلك المساعدة، وترددت معلومات صحافية عن أنه منحه 20 ألف يورو مقابل إحضار المتهم من ألمانيا إلى الأراضي الفرنسية. جرى إيداع المطلوب الألماني سجن «فرين» في ضواحي باريس. ولم تلق فرنسا بالا إلى الطلبات الألمانية المتكررة باستعادته، على أساس أن هناك عملية اختطاف واضحة. ولو ثبت أن والد كالينكا ضالع في هذه العملية فإنه قد يواجه احتمال السجن لعشر سنوات. لكنه قال لوسائل الإعلام إنه مستعد لقضاء كل ما تبقى له من عمر وراء القضبان، مقابل أن يلقى المجرم الذي قتل ابنته، جزاءه. ومع مرور الوقت، كان الأب يخشى أن تفرج العدالة عن الطبيب بسبب تقادم الزمن. وكان مقدرا لذلك ألا يتحقق، بعد أن تحركت قاضية التحقيق الفرنسية وسافرت إلى ألمانيا للاستماع إلى إفادات الشاهدات الثلاث الجديدات. وعاد أندريه بامبرسكي ليواجه كاميرات التلفزيون، منذ أيام، ويقول إنه كان صادقا في ظنونه، وإن الدكتور كرومباخ ليس بالمتهم البريء ولا بالطبيب المحترم.