صناعة الجريد المصرية تتجاوز الاستخدام المنزلي وتكسب المنافسة

أسرة وأعشاش عصافير وستائر وسجاجيد من بعض منتجاتها

TT

على الرغم من انتشار صناعة الجريد في مناطق كثيرة من مصر، فإن ثمة مناطق بعينها تعتبر مواطن تاريخية لمنتجاتها، ومن هذه المناطق مدينة نقادة في صعيد مصر، التي تتبع محافظة قنا الغنية بآثارها التاريخية العظيمة، ومنها آثار العصر الفرعوني.

في نقادة تعمل عائلات كاملة في صناعة الجريد تعرف بـ«السريرية» نسبة إلى الأسرّة، التي هي من أهم المنتجات المصنعة من الجريد، ويسمى السرير في صعيد مصر «العنقريب»، ولا يخلو بيت في قرى الجنوب ومدنها من هذا النوع من الأسرة، لرخص ثمنه وسهولة نقله إلى أي مكان. ويشيع استخدام السرير الجريد في جنوب مصر خلال فصل الصيف، ويوضع غالبا فوق أسطح المنازل، التي يستخدمها سكان الجنوب عادة في النوم طوال أيام الصيف هربا من ارتفاع درجة الحرارة داخل الغرف، ولا سيما بعدما انتشرت البنايات الإسمنتية، وصارت تمثل نسبة كبيرة من البيوت.

وتمتد صناعة الجريد في نقادة إلى العصور الفرعونية، ولقد ورثها أبناء المدينة عن أجدادهم القدماء، وفقا لمحمد السيد إبراهيم أحد العاملين في الصناعة، التي لم تتوقف عند حدودها القديمة، بل تطورت، ودخلت على أيدي صناعها إلى آفاق جديدة، وصار الجريد يدخل في صناعة الستائر والأباليك والأباجورات والنجف والمقالم وأطقم المكاتب بكاملها.

إبراهيم، الذي لم يتجاوز بعد الثلاثين من عمره، قال إنه أدخل تطويرا كبيرا على منتجات الجريد، وهو يعمل حاليا بصناعة اللافتات وقواعد الأكواب والوراقات والمكاحل، وعلب المصاغ والمجوهرات وعلب المناديل وساعات الحائط وقطع الشطرنج، وكذلك الفوانيس التي يروجها في شهر رمضان.

«ولم يتوقف إبداع العاملين في صناعة الجريد ومنتجاته عند هذا الحد، بل تجاوزوه إلى حدود تطويع الصناعة لخدمة مجالات اجتماعية وسياسية»، حسب كلام أبو سعيد - كما يحب محمد السيد إبراهيم أن ينادوه في المدينة -، وأشار أبو سعيد إلى أنه حاول أن يقدم رمزا للوحدة الوطنية في مصر من الجريد، في مواجهة ما يحدث بين آن وآخر من خلافات احتويت بسرعة بين عنصري الشعب المصري في العام الماضي. وذكر أبو سعيد أنه قام بتصميم مسجد من الجريد، كما قدم نموذجا للمسجد الأقصى، وتصميما يحاكي من خلاله إحدى الكنائس الشهيرة في الجنوب، هذا إلى جانب المنتجات التقليدية مثل غرف النوم التي تتكون من الأسرة الكبيرة وأسرة الأطفال والدواليب (الخزائن).

من جهة ثانية، يقدم الصانع محمود طايع أصنافا كثيرة من المنتجات الجريدية، تتنوع بين الترابيزات بأحجامها المختلفة، والكراسي والشمعدانات وأسرة «الشزلنج» وكراسي البلاجات والمصيف. وقال إنه يصنع حاليا كل ما تطلبه السوق من الجريد حتى المخدات وحوامل أجهزة الراديو والتليفون، وقد تجاوزت المهنة على يديه ومجموعة من الصناع والحرفيين من أقرانه تقديم منتجات جريدية للاستخدام المنزلي فضلا عن مجالاتها الجمالية، حيث استخدموا الجريد في الديكور وصناعة الستائر وأعشاش العصافير والسجاد، وهو ما يدفع هذه الصناعة، بحسب الكثير من الصناع، إلى طموح المنافسة بقوة في الكثير من أسواق الدول العربية والأوروبية.

هذا، وما يطمئن عشاق صناعة الجريد وبعض صناعها، على السواء، أنها لا تلاقي منافسة من الصناعات الأخرى، بسبب رخص أسعار منتجاتها. فالعاملون فيها يقدمون «الترابيزة» مثلا - وفقا لمحمد السيد إبراهيم - بمبلغ 25 جنيها مصريا، وهو ما لا يتجاوز 5 دولارات، ويباع الكرسي بالسعر نفسه، أما طاقم المكتب الكامل فيبيعونه بـ65 جنيها، ولا يتجاوز سعر النجفة أو الستارة 50 جنيها، وأما السرير فيصل ثمنه إلى 35 جنيها، وهي القيمة نفسها التي يباع بها سرير الجريد «الهزاز» الخاص بالأطفال، أما سرير النوم العادي فيباع بـ40 جنيها. ولكن رغم تدني هذه الأسعار، يرى بعض الصانعين، أن الصناعة تشهد حاليا حالة من الكساد بسبب نقص رؤوس الأموال الضرورية لتغذيتها.

وأشار محمد إلى أن كثيرين هجروا المهنة وسافروا إلى دول عربية وأجنبية بحثا عن تأمين لقمة العيش، قائلا إن استمرار صناعة الجريد حتى الآن وصمودها منذ العصور الفرعونية سببه أن العاملين فيها طوعوها لخدمة أغراض حياتهم، وجعلوها مفيدة على مستوى معيشتهم بشكل عام، كما استخدموها في مجال البناء، ولعل لجوء بعض الفنانين المصريين حاليا إلى صناعة منازل أو استراحات من الجريد يمثل امتدادا لهذا النوع من الاستخدامات.

على صعيد ثان، تشهد منتجات الجريد، من وجهة نظر محمد السيد إبراهيم، «إقبالا مرضيا من جانب السياح الأجانب، وهم يقبلون على اقتناء منتجاتها لتفردها من جهة ورخص أسعارها»، متابعا أنهم يندهشون عندما يرون قدرة صناع الجريد على تطويعه في منتجات مفيدة وجميلة في الوقت نفسه.

وفي الختام، ذكر محمد السيد إبراهيم لـ«الشرق الأوسط» أنه أسس نقابة لحرفيي الجريد، ضم فيها العاملين في مجالاتها المختلفة بما فيهم صناع الأقفاص، من أجل الحفاظ على المهنة وعلى حقوق العاملين فيها وتأمين مستقبلهم. وقال إنه يأمل أن تساعد النقابة على فتح أسواق لمنتجات الجريد في محافظات مصر الساحلية، خاصة تلك المشهورة بمواسمها السياحية التي تشهد إقامة الكثير من المنتجعات والقرى السياحية، كما أعرب عن أمله بأن تفتح أسواق لمنتجات الجريد خارج مصر لتسويقها في الأسواق الأجنبية المختلفة.