عازف القصر الجمهوري يبحث عن لقمة العيش في المقاهي

فخر الدين رضوانوفيتش لـ «الشرق الأوسط»: الحرب والآلات الإلكترونية والأزمة الاقتصادية وراء النكبة

رضوانوفيتش... حط الرحال في المقاهي بعد أيام العز («الشرق الأوسط»)
TT

اسم كبير في عهد مضى.. كان يشار إليه بالبنان، ويقصده الناس لقضاء حوائجهم لدى القصر الجمهوري ومؤسسات الدولة المختلفة. أما اليوم، فإنه يبحث عن قوت يومه من خلال العزف في المقاهي والمطاعم الكبيرة.

إنه فخر الدين رضوانوفيتش، عازف البيانو الشهير، الذي كان الرئيس اليوغوسلافي الأسبق جوزيف بروز تيتو، يحب الاستماع إليه، وغالبا ما كان يقدّمه إلى كبار الضيوف والزوار الذين كانوا يفدون إلى يوغوسلافيا السابقة.

رضوانوفيتش (60 سنة)، قصة «عزيز صنعة» ذل، أو قل ذلت. وقد التقت به «الشرق الأوسط» في مقهى «بالما»، بضاحية غربافيتسا، في العاصمة البوسنية سراييفو، حيث حط الرحال في المقاهي... بعد أيام العز.

ويعتبر رضوانوفيتش نفسه ضحية تقلبات الدهر وتغير الأمزجة، إذ لم يعد العزف على البيانو أو الاستماع إليه، كما كان في السابق مظهرا من مظاهر الأرستقراطية وعلامة من علامات الثقافة. ولقد أنهى رضوانوفيتش دراسة الموسيقى في سراييفو بعد الحرب العالمية الثانية بسنوات، بالحصول على تقدير «ممتاز» في جميع المراحل العليا، وتخصّص بالبيانو. وفي هذا المجال سحر أساتذته قبل الذواقة من الجمهور، وفي مقدمتهم الرئيس تيتو الذي طلب منه مرافقته في مقر إقامته، وفي بعض جولاته، حتى أنهك المرض الزعيم اليوغوسلافي التاريخي الراحل، فقرر رضوانوفيتش الاستئذان بالانصراف... وطلب رزقه في أماكن أخرى.

وحقا، كان في ما بعد أستاذا للموسيقى لمدة 34 سنة، وكان في الوقت نفسه يعزف في أكبر فنادق يوغوسلافيا السابقة. وأحيانا كان يطلب منه كبار الزبائن ورجال الأعمال ومديرو أعمال أمراء البلاطات الأوروبية في الذهاب معهم ليستمع لعزفه الأمراء وسراة القوم.

أما اليوم، فيعيش رضوانوفيتش من راتب التقاعد البسيط الذي يتلقاه من الدولة، وما يحصل عليه من أصحاب المقاهي الذين ما انفكوا يُشعِرونه بأنهم أصحاب فضل عليه، بطريقة غير مباشرة، فيقدمون إليه، ما رفض الإفصاح عنه لـ«الشرق الأوسط» كما لو كانوا يعطونه صدقة.

عزوف الناس والمجتمع عن الموسيقى، ولا سيما العزف على البيانو، ، يرجعه رضوانوفيتش لبضعة أسباب، فيقول: «أولا، الحرب لم تترك للناس مساحة لتذوق الموسيقى والاهتمام بهذا الجانب من الثقافة، وثانيا، تطور الآلات الموسيقية الإلكترونية... إذ بات بإمكان أي كان أن يشتري آلة بيانو ويعزف بيد واحدة، والبعض يظن الكل سواسية. وثالثا، ظهور الموسيقى الصاخبة... حتى أصبح الصخب سمة لواقعنا المعاصر، في حين أن المرء أحوج ما يكون إلى الهدوء والاسترخاء، بدلا من توتر الأعصاب الذي أصبح مرض العصر، ورابعا وخامسا، هناك الأزمة الاقتصادية وضغط الوقت... فكل شي أصبح سريعا، وبالكاد يجد الإنسان وقتا فائضا للاستمتاع به، أو مالا فائضا للاستمتاع به خارج أوقات العمل».

ومع أن رضوانوفيتش، راضٍ نسبيا عن وضعه، فإنه لا يزال يتحسر على زمن مضى، كان فيه أصحاب الفنادق الكبرى والمطاعم والمقاهي الفاخرة يتنافسون على استضافته، فيختار الأفضل من حيث المكان والسعر المدفوع. ويقول شارحا: «كنت في السابق أضع شروطي ولا أنتظر الرد، بل كان يأتيني فورا... كنت ملكا غير متوّج... تشرئب إلي الأعناق عندما أدخل إلى الأماكن، وعندما أعزف. أما اليوم فخياراتي قليلة، وما عاد هناك اهتمام بالعزف على البيانو، لا من قبل الناس، ولا أصحاب الفنادق وغيرهم». ثم أخذ نفسا عميقا، وأضاف: «لو كان هناك أماكن أخرى غير هذا المكان لكان الوضع أفضل»، وتابع: «... بعد الحرب عملت في فندق (أوروبا) وفندق (هوليداي إن) (كلاهما في سراييفو) لمدة 5 سنوات... أما الآن فلا يوجد زبائن فضلا عن رغبة أصحاب هذه الأماكن».

ولا يخفي رضوانوفيتش، رغبته في الهجرة، إذ يقول: «لدي رغبة عميقة في الهجرة، رغم تقدّمي في السن، إلى أي مكان في العالم يحترم صنعتي ويقدّر فني ويحسن تقييم أدائي... فهنا ماتت الموسيقى أو كادت، ولم يعد لعازف البيانو الأصيل أي مستقبل في هذه البقعة من العالم».

مدير مقهى «بالما»، سرجان توشيتش (65 سنة)، قال في حوار مع «الشرق الأوسط» إن رضوانوفيتش «من أفضل عازفي البيانو... وحفاظا على التقاليد العريقة، طلبنا منه العزف في هذه المقهى». غير أنه نفى أن يكون المجتمع البوسني اليوم خاليا من الذواقة «لا أقول إن الناس ما عادوا يهتمون، والدليل على ذلك وجوده بيننا... وحتى لو كان هناك عزوف، فواجبنا تذكير الناس بكل ما هو جميل في ماضينا وتاريخنا، بل في العالم». ومع إقرار توشيتش بوجود تدنٍّ في مستوى الذوق العام، فإنه يؤكد أنه «بالقطع ليس تدنيا نهائيا، وكلما تحسنت الظروف تحسن الذوق».

لم يكن رضوانوفيتش يعزف البيانو وحيدا، في مقهى «بالما»، ذلك المساء، بل كانت إلى جواره فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها اسمها ليلى، وكانت تعزف بجواره على آلة الكمان، وأخبرتنا أنها وزميلها عازف البيانو الكبير ينتميان إلى أوركسترا واحدة، وأنهما يلتقيان في مناسبات محددة في هذا المكان، وبعض الأماكن الأخرى، كما أنها تعمل بشكل مستقل مع فرق موسيقية متعددة.

ليلى تتحدر من أب بوسني وأم تركية، وعاشت في صباها بمدينة إسطنبول. ثم انتقلت مع أسرتها إلى سراييفو مثلها مثل عدد من العوائل المختلطة، سواء في تركيا أو البلاد العربية. ومن بين الفرق التي تعمل ليلى معها «فرقة أمادوس». وتؤيد ليلى كلام رضوانوفيتش عن أن «الموسيقى الهادئة، ولا سيما العزف على البيانو، لم يعد لها الجاذبية السابقة التي عرفها العالم في القرون الثامن والتاسع عشر والعشرين وحتى قبل ذلك»، وأردفت: «الزمن الذهبي لرضوانوفيتش، كما يقول لي معاصروه، كان في سبعينات وثمانينات القرن الماضي... حين كان يعزف في القصر الجمهوري، وهو ما فوّت عليه الانضمام إلى أوركسترا مشهورة، سواءً في يوغوسلافيا أو خارجها. أما اليوم، فهو رهين المقاهي».