صناعة الحرير التاريخية في صعيد مصر مهددة بالانقراض

أبناؤها تشاءموا منها ودفنوا أنوالها في قاع بيوتهم بسبب الفقر

عامل على نول للحرير («الشرق الأوسط»)
TT

رغم أنها واحدة من أهم الفنون والصناعات التي حرص المصريون على امتداد حضاراتهم على توريثها لأبنائهم؛ فإنها تواجه هذه الأيام خطر الانقراض، بعدما اتجه عدد من شيوخها إلى التخلي عنها وهجرتها إلى أعمال أخرى وعدم تشجيع أبنائهم على الانخراط فيها. إنها صناعة الحرير التي اشتهرت بها مدينة «نقادة» التاريخية (جنوب مصر) منذ العصور الفرعونية الأولى.

كانت نقادة حتى وقت قريب مركزا رئيسيا لتصدير الحرير إلى عدد من الدول الأوروبية والعربية، وكانت ترتبط بتجارة خاصة مع السودان، وبسبب رواج المنسوجات الحريرية اتجه معظم أهالي المدينة التاريخية إلى العمل في مجال نسج الحرير، لدرجة أنه كان من النادر جدا العثور على منزل واحد فيها يخلو من نول أو نولين حيث كان الرجل وزوجته وأولاده يعملون جميعا منذ طلوع الفجر، وذلك بسبب ارتفاع درجة الحرارة في المدينة، ويستمر عملهم طوال أيام الصيف حتى غروب الشمس لمواجهة مطالب السوق.

تغير حاليا هذا الوضع في المدينة بعد أن اضطر الكثير من العاملين في المهنة وكبار معلميها إلى تركها، بل إن بعضهم قاموا بدفن أنوالهم تحت تراب منازلهم، ويبرر أحد النساجين الكبار في نقادة، بأن الصناعة ما عادت تأتي بهمها و«لم يعد لها من آخر» يقصد جدوى، لذا فقد كره صنعته، وزيادة على ذلك قرر دفن نوله في المنزل، ورفض أن يمتهنها أبناؤه، مشيرا إلى أن «الصنايعي» يعمل طوال النهار دون أن يحصل على ما يسد به رمق أبنائه.

رغم ذلك لا يزال في القرية من يعمل في مجال الحرير، ففي منزل قديم بلا سقف يعمل أربعة من الصناع على أنوالهم؛ كل واحد منهم ينتج نوعا معينا من منتجات الحرير، فمنهم من ينتج الكوفية، ومنهم من يقوم بنسج الدورماني، ومنهم من يقدم التوب، وغيرها من الأنواع التي يتلقون بها طلبات تصنيع من مورد الحرير الذي يقدم لهم يوميا ما يحتاجونه، وفي المساء يحصل التجار منهم على إنتاجهم نظير نقد كل منهم 7 جنيهات مصرية عن كل قطعة ينتهون منها.

أولهم هو العم زكريا، ما زال يقبض على جمر صناعته على الرغم مما تشهده من كساد وقلة المردود المادي من ورائها، مبينا أنه خرج إلى الدنيا ليجد آباءه وأجداده نساجين لذا لم يستطيع أن يهجر عملهم، وهو في هذه السن وبعدما تجاوز عمره الستين عاما ولم يعد هناك إمكانية للعمل في مهنة أخرى يستطيع من خلالها مواجهة أعباء الحياة والحصول على لقمة العيش، مشيرا إلى أن حرصه على المهنة يأتي من «القل»، أي عدم وجود مصادر رزق أخرى.

ويذكر العم زكريا أنه يقف على نوله منذ أكثر من خمسين عاما، حيث تعلم المهنة منذ أن كان طفلا، وكان وقتها في نقادة ما يزيد على ألف نول، أما الآن فلم يعد هناك إلا القليل منها.

على مدار اليوم يعمل النساجون الأربعة بلا صوت، حتى المذياع غير موجود في المنزل، لا يسمع في محيطهم صوت إلا الذي يصدر عن حركة أنوالهم، حيث ينتجون ما يسمونه «التوب»، وهو غطاء للرجال مع «اللفاح» الذي يشبه «العِمة»، التي يرتدونها في جنوب مصر، وهناك «الدورماني»، وهو غطاء تتوشح به المرأة أثناء تزينها في ليلة عرسها في جنوب مصر، إلى جانب «التوب الإسناوي» نسبة إلى مدينة إسنا التي تتبع محافظة قنا، ويغلب عليه اللون الأسود.

أما العم صادق فقد تحدث عن رحلته في العمل في السودان منذ عشرين عاما، مشيرا إلى أنه بدأ العمل في صناعة الحرير بعدما تم رفع الدعم عن الحرير الخام منذ سنوات ليست بعيدة، وقال إنه كان يقدم ما يكفل له ولأسرته حياة مستورة، أما الآن فلم يعد قادرا على العمل حتى وقت المغرب وهو طوال اليوم لا يقدم إلا 4 أمتار من الحرير، يحصل عن كل متر منها على 6 جنيهات، وقد كان فيما مضي يحصل على 30 جنيها في اليوم نظير ما يقدم من إنتاج.

بينما يذكر العم فهمي أن النول الذي يعمل عليه وهو من النوع البدائي يتكون من مدادة تحمل البكر، ودواسات، وحق، ومطوي، ومكوك، ونير، وجميعها من الأدوات البدائية التي لم يدخل عليها النساجون في نقادة أي تطوير يذكر. مشيرا إلى أنه بدأ صنعته بعدما خرج من التعليم، ولم يكن عمره سوى ثماني سنوات، كان ذلك في ستينات القرن الماضي، وقد اضطر إلى العمل بعدما توفي والده، ولم يعد هناك من عائل تعتمد عليه الأسرة لسد حاجاتها.

أما آخر العمال فهو العم رمزي الأخميمي الذي يتخصص في صناعة الكوفيات، التي لا يزيد حجم الواحدة منها عن متر، ولا يخفي الرجل حزنه على الحالة التي وصلت إليها صناعة النسيج في نقادة التي كانت حتى وقت قريب مصدر جذب للصناع المهرة، مشيرا إلى أن أغلب منتجي الكوفيات فيها كانوا ينتمون إلى مدينة أخميم، وهي مدينة ذات أصول فرعونية أيضا، وكانوا جميعا حريصين على تعليم أبنائهم المهنة، لكنه، وبسبب من الحال المتردية التي وصلت لها المهنة، لم يدفع أحدا من أبنائه إلى تعلمها، على الرغم من أنهم جميعا أنهوا دراستهم وصاروا بلا عمل، ويختتم حديثه: «لقد مرت علينا أيام لم نكن نجد فيها الدقيق، لكنهم على الرغم من ذلك رفضوا تعلم المهنة، لأنهم يرون أن السبب في حالة الفقر التي يمرون بها يكمن في امتهاني صناعة نسج الحرير الذي يأكل من ورائه التجار الشهد».