ديك رومي بالحشوة على طريقة مارلين مونرو

ناشر فرنسي فاز بالحقوق العالمية لخواطر وأشعار النجمة الشقراء العصية على النسيان

TT

«تذكري أن في مقدورك أن تتربعي على قمة العالم»، هكذا خاطبت الممثلة الأميركية مارلين مونرو نفسها في واحدة من الخواطر التي دأبت على تسجيلها، على مدى سنوات، قبل أن تنتهي حياتها تلك النهاية المأساوية، عام 1962، وحيدة في فراشها، وبقربها علبة فارغة من الحبوب المنومة. وبعد مرور نصف قرن على تلك الخواطر الحميمة والرسائل والتأملات والأشعار ووصفات الطعام التي دونتها أشهر نجمة إغراء في تاريخ السينما وظلت مجهولة في عتمة الصناديق الكرتونية، توصل إليها الناشر الفرنسي برنار كومون وجمعها، مع صور نادرة، في كتاب بعنوان «شظايا» يصدر في باريس هذا الأسبوع عن دار «سوي».

في تلك السنوات من أواسط خمسينات القرن الماضي، كانت مارلين قادرة بالفعل على أن تحتل القمة، لكن خواطرها تكشف عن روح شديدة القلق، وعن خوف مستمر من الجنون، وعن فقدان الثقة بالنفس، وعن الشعور الدائم بأن الآخرين يريدون منها أن تكون صورة مثيرة فحسب، وأنها لن تبلغ ما تتمناه من تحصيل ثقافي يتيح لها أن تكون أكثر من تلك الدجاجة التي تبيض ذهبا لمنتجي هوليوود باعتبارها الحلم السري والأشقر والجميل لرجال العالم. لقد اكتشفت، بالصدفة، مدى جهلها حين استمعت إلى نقاش جرى بين الكاتب المسرحي آرثر ميلر والمخرج إيليا قازان، ذات يوم من عام 1951. ونقرأ لها في المقاطع التي تسربت من الكتاب قبل صدوره هذا الاعتراف: «لقد وجدت نفسي غبية بشكل مخيف، فأنا لا أفقه شيئا في الرسم ولا الموسيقى ولا الأدب ولا التاريخ ولا الجغرافيا». وهي قد تزوجت من ميلر فيما بعد، الرجل الذي أرادته معلما لها، وكان محرضها على المطالعة، وتصورت أن الاقتران بمثقف يجعل منها مثقفة في غمضة عين. لكنها لم تتوقف عن الحلم ولا عن المحاولة.

قررت الدمية الشقراء أن تأخذ دروسا في تاريخ الفن، وراحت تجبر نفسها على مطالعة الروايات الكلاسيكية وكشوفات فرويد في علم النفس. وفي الكتاب صورة لها وهي تجلس على أرجوحة للأطفال، مرتدية بلوزة مخططة وسروالا قصيرا يكشف عن ساقيها، تقرأ رواية «عوليس» لجيمس جويس. بل إنها وضعت على رأسها باروكة سوداء وغطت عينيها بنظارات قاتمة وأخذت الطائرة إلى نيويورك، عام 1954، منتحلة اسما مستعارا هو زيلدا زونك، لكي تأخذ دروسا في «استوديو الممثل»، الدورات الشهيرة في الأداء الدرامي التي كان يديرها الفنان لي ستراسبيرغ. لقد علمها كيف تختار الكتب، وكيف تستمع إلى السيمفونيات ونصحها، كما كان ينصح كل تلاميذه، بالخضوع لجلسات التحليل النفسي لاكتشاف طاقاتهم. ونفذت التلميذة النجيبة نصيحة معلمها، خصوصا أنها كانت تعاني من كوابيس الماضي ومن طفولة تعيسة في الملاجئ بعد أن هجر أبوها أمها، قبل ولادتها، وبعد أن عانت والدتها من الشيزوفرينيا ودخلت مصحا للأمراض العقلية.

هربت مارلين وهي في السادسة عشرة لتتزوج ابن الجيران الذي يكبرها ببضع سنوات، جيمس دوغيرتي، الاسم الذي ما كان ليذكر لولا أنه دخل التاريخ باعتباره أول أزواجها. وفي «شظاياها» تكتب وهي ابنة 17 سنة أن دوغيرتي لم يكن فارس أحلامها، لكنها ربما مالت إليه لأنه كان أحد الشبان القلائل الذين لم تنفر منهم. لقد اعتادت أن تسمي زوجها «دادي» أي أبي، وطلبت منه أن يدعوها «بيبي» أي طفلتي، لكن الزواج لم يدم أكثر من أربع سنوات، ظلت العروس خلالها تحمل اسمها الأصلي نورما جين مورتنسن، إلى أن وقعت عينا صقر هوليوود المنتج هوارد هيوز على صورة لها في إحدى المجلات، فاستدعتها شركة «فوكس» وأطلقت عليها اسم مارلين مونرو وجعلت منها الدمية الشقراء التي تصلح للأدوار العاطفية الخفيفة.

بعد دوغيرتي تزوجت مارلين من لاعب «البيسبول» جو ديماجيو، الرجل ذي العضلات المفتولة الذي وجدت في أحضانه الحماية من كوابيسها. لكن الزواج لم يعمر سوى بضعة أشهر فقد ذهب العريس لأداء خدمته العسكرية ووجد صور عروسه معلقة في مخادع كل الجنود، وهي ترتدي فستانا أبيض تتطاير أذياله فوق فوهة للتهوية. وكان الزوج الثالث هو آرثر ميلر، الكاتب الذي التقته مارلين، مجددا، بعد انتقالها إلى نيويورك، واقترنا عام 1956 وعاشا سنوات كانت مارلين فيها سعيدة لأنها تزوجت مؤلفا معروفا يتعرض للملاحقات باعتباره ذا ميول شيوعية، مثل الكثير من مشاهير الوسط الفني آنذاك. وفي تلك الفترة شخبطت مارلين في واحدة من مفكراتها الصغيرة هذه العبارة: «تزوجت آرثر ليس لأنه الرجل الذي أُحبه وأرغب فيه فحسب، بل لأنه الإنسان الذي أثق فيه كما أثق بنفسي». وفيما بعد، وصفها ميلر بالقول إنها كانت «نصف ملكة ونصف طفلة مهجورة، تركع أحيانا أمام جسدها ثم تنفر منه، في أحيان أخرى، وتصاب بالإحباط». وما كان يمكن للكاتب الشهير أن يتعايش طويلا مع الدمية الطفلة، فكان الطلاق عام 1961. أما حكاية مارلين القصيرة مع الرئيس الأميركي جون كيندي، الرجل الوحيد الذي تسلى معها ثم صرفها، فأشهر من أن تروى. وتكشف اعترافاتها التي دونتها على قصاصات متفرقة أو في المفكرات أو الهوامش أو على الآلة الطابعة، عن أنها مع كل الرجال الذين دخلوا حياتها، ومنهم الممثل الفرنسي إيف مونتان، كانت مارلين تلك الطفلة التي تبحث عن أمان مفتقد.

لقد حققت أفلامها أعلى الإيرادات، لكنها ظلت تبحث عن دور يليق بممثلة لا بحسد مثير. ورغم محاولات الكاتب تنيسي ويليامز فرضها على أصدقائه من المخرجين في دور من تأليفه، فإنها تكتب أن المخرج إيليا قازان قال لها، بصريح العبارة، إن تحولها إلى رمز للجنس يجعل من المستحيل عليها الحصول على أدوار العاشقة الوفية أو الشابة البريئة التي تناسب سنها. ولما أبدت رغبتها في الحصول على دور «غروشينكا» في الفيلم المأخوذ عن رواية «الإخوة كارامازوف»، قهقه مخرجو هوليوود سخرية. ومن جهتها، عاقبت مارلين المخرجين بازدراء مواعيد التصوير والبقاء في سريرها تاركة فريق الفيلم ينتظر تشريفها والمنتج يشد شعره من الغيظ.

لم تتخل مونرو عن صحبة المثقفين. وكان الكاتب والروائي ترومان كابوت، الذي رافقها في سهرات النخبة في نيويورك، قد لاحظ أنها بدأت تفرط في تناول العقاقير المهدئة والشمبانيا مشروبها المفضل. وفي أوراقها الحميمة التي بدأت كتابتها وهي في السابعة عشرة ولم تتوقف إلا قبل أشهر قلائل من رحيلها، كثيرة هي المقاطع التي تكشف فيها مارلين عن شعورها بالعزلة وخشيتها أن تنتهي فاقدة للعقل، شهيرة بشكل مدو لكنها لم تنجح في الحصول على دور محترم، معشوقة من كل الرجال من دون أن تجد الحبيب القريب منها والمناسب لحالتها. والغريب أن الصحافيين الذين قرأوا مقاطع من «شظايا» أجمعوا على أنها كتابة امرأة ذكية وحساسة، لا تشبه النجمة الشقراء التي يفترض فيها أن تكون بلهاء. وحتى وصفات الطعام التي سجلتها بخط يدها، ومنها الديك الرومي بحشوة الكستناء، لا تخلو من جانب إبداعي خاص بمارلين.

ويبقى أن الناشر الفرنسي برنار كومون حصل على حقوق نشر «شظايا» أشهر أساطير هوليوود، دون كبريات دور النشر في نيويورك، بمحض المصادفة. لقد سمع أثناء دعوة عشاء أن عائلة لي ستراسبيرغ معلم مارلين فن التمثيل، ومالكة حقوق التصرف بمخلفاتها، ما زالت تحتفظ بملفات وصناديق تحتوي على قصاصات وصور ورسائل تعود للنجمة الراحلة. وطار كومون إلى نيويورك لمقابلة آنا، أرملة ستراسبيرغ، وكانت تثق به وتبحث عن دار نشر ذات سمعة طيبة في ميدان نشر الأعمال الأدبية، وتحذر من الاتصال بالناشرين التجاريين في أميركا. ولم يكن هدف الأوصياء على التركة الحصول على أكبر مبلغ من المال بل الطابع الأدبي للكتاب والكيفية التي سيطلع بها القراء على لواعج مارلين مونرو. وهكذا أوكلت العائلة إلى كومون مهمة النشر بكل اللغات، وهو الذي اختار الناشرين في الدول التي سيصدر فيها الكتاب.