معرض استعادي لكلود مونيه في باريس

قد يكون الأكبر له بعد وفاته عام 1926

TT

أكثر من ستين عاما عاش كلود مونيه، رائد الانطباعية، وهو يرسم، بلا كلل أو تعب أو حتى إجازات مرضية. كان مونيه يمارس الرسم بشغف مطلق، كما لو أنه تزوج الألوان والأوراق والأقمشة لكي تخرج من بين يديه ضاجة بالألوان صاخبة بالمناظر الطبيعية مفعمة بالحياة والحيوية، حيث كان عقل هذا الرجل وقلبه ينبض بهما.

كلود مونيه الرسام الغني عن التعريف، الذي رسم المدرسة الانطباعية بخاتم ريشته وألوانه، سيعيد الفرنسيون اليوم، ألوانه وذكراه وانطباعيته الفائقة من خلال معرض قد يكون الأكبر له بعد وفاته عام 1926، حيث يقام المعرض في الـ«غراند باليه» في باريس، وهو أكبر معارض الفنون في العالم، فلا عجب أن يستضيف ملك الانطباعية في العالم للمرة الثانية خلال ثلاثين عاما.

على عكس غيره من المعارض التي تقام دوما لمونيه، فإن هذا المعرض، يشكل حدثا خاصا وفريدا، وخاصة أنه يرتب زمنيا لكل لوحة بدءا من عام 1860 وقت أن كان مونيه الشاب لا يزال في مقتبل موهبته. اختار مونيه من بداياته المواضيع التقليدية إلى حد ما، فمنذ بداياته في بودين على النورماندي رسم شاطئ البحر والغابات وكذلك ميناء السفن إلى حين وقع في غرام باريس وضواحيها، حيث ركز بشكل خاص على أرجنتوي عام 1870 في المرحلة ذاتها التي بدأ يرسم شروق وغروب الشمس على نهر السين.

في عام 1880 بدأ مونيه في زياراته المتكررة إلى النورماندي وكذلك إلى شواطئ البحر المتوسط في الجنوب الفرنسي، فكان أن خرج بلوحتين تعدان من أفضل اللوحات في تاريخ الانطباعية، هما «الجزيرة الجميلة» 1886، و«الفضاء الأجوف» 1889، وحملت هذه المرحلة في حياة مونيه قدرات تقنية أكبر على رسم واقتناص الضوء، مما زاد في بلورة شخصيته الفنية وانحيازها لجماليات الطبيعة وتصويرها بدقة متناهية.

إذا كان كلود مونيه، وبكل تأكيد، رسام المناظر الطبيعية، فإنه كذلك، وزاد عليه، عبر أيما تعبير عن موت الطبيعة، ذلك من خلال نقاشاته وحواراته الكثيرة التي كان يرى فيها الطبيعة وكأنها ميت يسعى هو إلى إعادة الحياة إليه. نرى تأثير هذه الفكرة بقوة في لوحة «غذاء على العشب»، و«امرأة في الحديقة»، حيث نجد التحدي الذي كان أمام مونيه متمثلا في الهواء الطلق أو العمل في الخارج. وفي هذا المعرض بالذات تعرض غالبية لوحات مونيه التي رسمها خارج الغرفة، الأمر الذي يحيلنا إلى تقنيات مختلفة عن اللوحات الأخرى التي كانت المخيلة وراء رسمها. العمل في قلب الطبيعة هو، هنا، عمل مضن لفنان أراد من خلال رسوماته أن يجسد الطبيعة أو يتحداها بخلقها على قماش وبألوان لم تتفاعل مع الهواء بقدر ما تفاعلت في رأسه هو. في المعرض أيضا نجد عشق مونيه لا للطبيعة فحسب، بل لمرحلة من مراحل فنه وصفت بأنها الأدق والأكثر حساسية في التعامل والخلق. هذه المرحلة هي مرحلة انبهار مونيه بزخرفات الطبيعة المتكونة من الأزهار، حيث إن ميله الأكبر هنا للفن الياباني في أروع تجلياته من خلال التركيز على الأزهار الصغيرة باعتبارها مكونا أساسيا لجماليات المشاهد الطبيعية.

في عمر الخمسين، كان مونيه قد وصل إلى الشهرة التي يتمناها أي فنان في العالم. لكنه، ولأسباب على الأرجح شخصية لم يفصح عنها، لم ينبهر بهذه الشهرة، بل جعلها سببا لتقربه أكثر من الطبيعة. في هذا العمر أنشأ كلود مونيه حديقته الخاصة في مزرعته بجيفيرني، وهناك أقام ليختم حياته وهو يرسم في هذه الحديقة التي لا تزال إلى اليوم من أجمل الحدائق الخاصة في فرنسا. وهو أنشأها لتكون نموذجا، ليس في بناء الحدائق، وإنما لتكون العامل المطور لشخصيته الفنية، وليكون تغيرها وتبدلها وتغير فصولها السبب الرئيسي لإنتاج مجموعة لوحات تعتبر الأغلى من بين معظم لوحاته.

في نحو مائتي لوحة، يعرضها الـ«غراند باليه» في باريس لكلود مونيه يمكن لزائر هذا المعرض أن يتابع يوميات حياة هذا الفنان الذي لا يمكن نسيانه بسهولة.