فن الزخرفة الإسلامية في البلقان.. يغرف من بحر وينحت في صخر

المؤرخ كنعان تشوركوفيتش: لدينا مبدعون شباب ومؤرخون فنيون يبشرون بمستقبل مشرق

محراب جامع الغازي خسرف بك («الشرق الأوسط»)
TT

ولع الإنسان بفن التصوير والنحت والنقش وغيره يعود إلى عصور سحيقة. ولقد تجاوز ذلك الولع في بعض الأحيان الحدود، فبلغ مبلغا متطرفا حتى عبد بعضهم إبداعاته، كما ينطبق على الأوثان والتماثيل. فالفن له سحره وتأثيره، ولذا لم يخل عصر من أشكال الفنون التي عرفتها البشرية حتى اليوم.

ولكن عندما جاء الإسلام نهى عن تعظيم الصور والأشكال الإنسانية، وفتح مجالا آخر في الفن الزخرفي والمعماري، ازدهر على امتداد تاريخ الإسلام في مختلف حواضره من «الحمراء» في غرناطة الأندلسية بشبه الجزيرة الأيبيرية، مرورا بالآثار العظيمة في العالم العربي وتركيا والبلقان والقوقاز وإيران، واتجاها إلى آسيا الوسطى وبلاد ما وراء النهر حتى الصين وجنوب شرقي آسيا. ومن أشهرها ما تحفل به حواضر كالقاهرة ودمشق وحلب وبغداد وإسطنبول وأصفهان وبخارى وسمرقند ولاهور.

ويبرز من الفنون الإسلامية الخالدة، فن الخط العربي، وفن الزخرفة (الأرابيسك) وفن النقش، وفن التذهيب، وفن الأشكال الهندسية كالأقواس والقباب والفسيفساء والسيراميك والرسم الطبيعي، وما إلى ذلك.

في البوسنة والهرسك، التقت «الشرق الأوسط» كنعان تشوركوفيتش، المؤرخ الفني والمتخصص في الفن الإسلامي، ورئيس جمعية «أليف» للفنون الإسلامية، ورئيس تحرير أول مجلة للفن الإسلامي على الإنترنت، وهي «إسلاميك آرتس ماغازين». فقال متحدثا عن موضوع الفن الإسلامي: «تتميز فلسفة الفنون الإسلامية بأنها تقطع مع أشكال الفن، الذي يجسد الأرواح ذاتها، لأسباب عقائدية تهدف لحماية الإنسان المسلم من تأثير التجسيم، وحتى لا يتجه للصورة بدلا من الله سبحانه وتعالى. وبالتالي، انفصلت الفنون الإسلامية عن الفنون الوثنية، إذ كانت الأصنام وتماثيل الكبراء محط عبادة وتقرب، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد فعل هذا الإغريق والرومان وعرب الجاهلية وأقوام آخرون في مختلف أنحاء العالم».

وتابع تشوركوفيتش: «الإسلام مارس التوحيد من خلال القطع مع الفن الوثني، حتى لا يعود المسلمون لعبادات المجسمات وتعظيمها، مهما علا كعب أصحابها، والواقع أنه ليس لدينا تماثيل لخالد بن الوليد أو صلاح الدين الأيوبي أو طارق بن زياد أو محمد الفاتح، ولا غيرهم... مع أننا نعظمهم ونجلهم في نفوسنا».

وأشار تشوركوفيتش إلى أن «كتابة القرآن الكريم وطباعته لم ترافقهما أي صور على مدى التاريخ الإسلامي، للحفاظ على نقاوة التوحيد، وكي لا يعمد البعض إلى لتركيز على الصور عند الاستغاثة والدعاء». وأردف «أن المسلمين أبدعوا في فنون الزخرفة والفسيفساء والخط العربي والسيراميك والنقش على أنواعه، وأبدعوا في اعتماد الأشكال الهندسية، وهي أشكال يختلف بعضها عن بعض، لكنها مع ذلك تمثل منظومة الفن الإسلامي. وقد جمع المسلمون بين مختلف هذه الفنون أو بعضها، كفن الزخرفة مع فن الخط العربي، أو النقش مع الزخرفة، والنقش والزخرفة مع العمارة، وهذا ما نلاحظه في الكثير من المساجد والقصور، وحتى المساكن الخاصة».

وأبرز تشوركوفيتش، في حواره، دور السلاطين وأثرياء المسلمين عبر التاريخ في تشجيع وتنمية وتطوير الفن الإسلامي، فقال: «كانت هذه فنونا راقية تدل على اهتمام المسلمين بجمال النفس والمكان والمحيط، وكان السلاطين والولاة وأثرياء المسلمين يمولون الكثير من المشاريع الفنية حتى المنتزهات العامة ومحيط المدن وغير ذلك».

ثم شرح تشوركوفيتش، كيف أن الفن الإسلامي ينقسم إلى قسمين: داخلي وخارجي. ففي الهندسة المعمارية الإسلامية، لا سيما الشرقية، كانوا يتعمدون رفع جدران أسوار البيوت، ليس للحفاظ على الخصوصية فحسب، بل ليكون هناك ظل يستظلون به، ولكي يكون جميل الشكل عملوا على أن يكون مزدانا بالنقش، سواء على الصخور (الحجر) مباشرة، أو باستخدام الجبس (الجص)، ومن الداخل توجد لوحات بديعة من الزخرفة والنوافير والفسيفساء». ويضرب المؤرخ البوسني، أمثلة على ذلك بالجامع الأموي في دمشق، وبمقام الصحابي الجليل أبو زمعة البلوي في القيروان وقصر الحمراء في الأندلس وغيرها.

وعن دور العثمانيين في تطوير الفن الإسلامي، قال: «العثمانيون أعطوا الكثير للفن الإسلامي، لا سيما فن الخط العربي، وهم من طور فن السيراميك (الخزفيات)، ويبرز هذا بوضوح في مسجد السلطان أحمد أو ما يعرف بـ(الجامع الأزرق)، فقد كانت مصانع السيراميك في إزنيك تعمل لمدة عام لصالح الجامع، وهو لوحة رائعة، إلى جانب جامع أحمد باشا سوكولوفيتش في سراييفو، هنا في البلقان، وقصر توب كابو في تركيا، وهو لوحة تشكل عظمة الفنون الإسلامية حتى لو لم ينجز غيره».

ومن هنا تطرق إلى حالة الفن الإسلامي في البوسنة والهرسك، فأعرب عن ألمه الشديد لتعرض الكثير من الكنوز الفنية في البوسنة للهدم والتدمير على يد الصرب، ومنها جامع آلاجا في فوتشا بشرق البلاد. ثم قال «إن هناك مئات المخطوطات التي لا تزال تحفظ وتروي عظمة الفن الإسلامي. ولكن مع الأسف، توقفت مسيرة الفن الإسلامي في البلقان بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة. أما اليوم، فإن الأجيال الجديدة تعمل على إنهاض ومتابعة مسيرة الحضارة الإسلامية فنيا»، وأضاف «لقد بدأت مدارس خاصة تفتح لتعليم الفن الإسلامي وتدريس الخط العربي. ولدينا الآن أكاديمية الفنون ولدينا مبدعون شباب ومؤرخون فنيون... مما يعد بمستقبل مشرق».

من ناحية ثانية، نفى تشوركوفيتش، أن تكون زخرفة المساجد قد وقعت في محظور المنع الشرعي، مشددا على أن «الزخرفة في الغالب انحصرت في القباب والسقف، وبالتالي، لا يشمل النهي عن زخرفة المساجد حتى لا تلهي المصلين عن العبادة».