حرفي من دمشق يصنع دلال القهوة العربية منذ نصف قرن

فيصل الكاني صامد في وجه التصنيع الآلي

صورة لمصنع الكاني بالطريقة اليدوية («الشرق الأوسط»)
TT

يتباهى كثيرون من أصحاب المضافات في البادية السورية، وفي البيوت العربية الواسعة في أحياء «دمشق القديمة»، بل حتى مديرو الشركات والمؤسسات، وهم يقدمون لضيوفهم فنجان القهوة العربية المرة بطريقة كلاسيكية تحترم التراث. إذ تصب القهوة المرة في الفناجين من الدلة النحاسية. ويفاخر هؤلاء أكثر عندما تكون هذه الدلة مصنوعة يدويا وليس بواسطة الآلة، ولذا فإنهم يعتبرونها «قطعة فنية» لا مجرد وعاء نحاسي بسيط.

وحقا، تصبح الدلة عملا فنيا عندما تحمل بصمات صانعها الحرفي الخبير. واليوم، لا يزال هناك حرفي واحد في دمشق ما زال مصرا على التصنيع اليدوي للدِّلال، على الرغم من تحول جميع زملائه منذ سنوات بعيدة إلى التصنيع الآلي.

إنه فيصل محمود الكاني (65 سنة) الذي ورث هذه المهنة عن آبائه وأجداده، واستمر يعمل بها منذ نصف قرن في ورشته اليدوية بمنطقة باب مصلى، وسط دمشق.

قال الكاني لـ«الشرق الأوسط» في لقاء معه: «المعروف أنه في منطقة وجود ورشتي تنتشر بكثرة ورش الحدادة وتصنيع دلال القهوة المرة التي كانت حتى قبل ربع قرن عامرة بالحرفيين اليدويين، ولقد تجاوز عددها الخمسين ورشة. ولكن توفي معظم هؤلاء ورفض أبناؤهم العمل في هذه الحرفة المتعبة، وحولوا محلات آبائهم وأجدادهم إلى مهن تجارية مختلفة، فبقيت أنا وحيدا أمارس مهنتي اليدوية... ولم أتخل عنها على الرغم من كل المغريات في استثمار دكاني لأعمال أخرى».

وتابع الكاني: «أنا منذ سنوات عمري الأولى عشت أجواء هذه المهنة وتعلمتها، وينتقدني البعض لاستمراري بها على الرغم من مرابحها التجارية القليلة قياسا بالمهن الأخرى. ولكن، الحمد لله... الحالة (مستورة)، وأنا راض عن العائد منها، خاصة أن منتجاتي اليدوية من دلال القهوة المرة صارت تصدر حاليا لدول الخليج العربي... وهي مطلوبة هناك مثلما هي مطلوبة في البادية السورية».

وشرح الكاني مراحل العمل اليدوي في دلة القهوة، واختلافه عن الطريقة الآلية التي تعتمد على السحب والبلص بالآلات، فقال: «العمل اليدوي يجري على الشكل التالي: أشتري النحاس المستورد عادة من بلدان أوروبية، ويكون على شكل صفائح، فأباشر بتحديد القياسات على الصفيحة النحاسية، بشكل دقيق، وحسب المطلوب. ومن ثم أستخدم طريقة الدق اليدوي بالمطرقة الخاصة أو (الشاكوش)، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة التحمية والتلحيم... ولكن ليس بالأكسجين، كما هو الحال في الدلات التزيينية الكبيرة، وبعد ذلك يصار إلى التشكيل يدويا ليتحول ما بين يدي إلى دلة ذات لون أصفر مائل إلى الحمرة. وبعدها أرسل الدلة إلى (المبيض) لتبييضها مع التنظيف والجلخ... قبل أن أعود أنا لتطبيق يد الدلة وغطائها من الأعلى، ومن ثم ألمع الدلة، لتبدو براقة وجذابة... عندها تصبح الدلة جاهزة للبيع والاستخدام».

الكاني أصر على تعليم أولاده هذه المهنة، التي - كما سبقت الإشارة - ما عاد أحد يمارسها بالطريقة اليدوية في دمشق سواه، ويؤكد مع ثقة كبيرة بقراره أن جميع أولاده الذكور، وهم ثلاثة شبان يعملون معه، وبمختلف مراحل العمل اليدوي، في حين يقوم هو بتصميم الدلة على الصفيحة. ثم إنه واثق من خياراته ومن احترام أولاده لها بالابتعاد عن الآلة - حتى بعد وفاته - والمحافظة على ورشته اليدوية. الورشة بالمناسبة تضم أدوات العمل البسيطة، وهي عبارة عن مجموعة من القواعد (السندانات) التي يضع عليها الصفائح، ولكل قطعة من الدلة، التي تأخذ تسميات محلية دارجة، لها قاعدة خاصة بها. وهنا يشرح الكاني لـ(الزنبوعة) قاعدتها، ولـ(البطن) سنديان خاص، وهناك (الفحم) و(البرادة) وبعض المواد الأولية».

ولا يتأفف الكاني أو يتضايق، وهو منهمك في العمل، عندما يأتيه زبون يطلب منه دلة بمواصفات ومقاييس يرغب فيها أو بموديلات معينة مختلفة عن الدارجة في الشام، والتي يجيد تصنيعها بشكل متقن، مثل «البغدادية» ذات المقاس المختلف والشكل الخارجي المغاير، وهي تعتمد على طلائها بالقصدير من داخل الدلة ومن سطحها الخارجي، حيث توضع على المنقل، في حين أن «الشامية» تتوافر بطلاء عادي ويمكن وضعها على منقل الحطب وعلى موقد الغاز أيضا.

لدلال الكاني زبائنها المواظبون من أصحاب «المضافات»، ولها أيضا زبائن موسميون يشترون دلاله في مناسبات معينة، وأهمها مواسم الحج والعمرة إذ تقدم كهدية للحاج والمعتمر بمناسبة عودته بالسلامة من الديار المقدسة. كما أن أصحاب مناسبات الأفراح والأعراس التقليدية وغيرها يشترون دلال الكاني ليقدموا القهوة المرة فيها لمعازيمهم.

ويضاف إلى كل هؤلاء هواة جمع دلال القهوة الأثرية من المواطنين والسياح الأجانب والمسؤولين عن متاحف التقاليد الشعبية في المدن السورية، إذ يجيد الكاني تصليحها وصيانتها وترميمها في ورشته لتعود كما كانت عليه عند تصنيعها.. وهي قد تعود لمائة سنة أو أكثر. وبالنسبة للهواة والسياح الأجانب، فإن هؤلاء يشترون الدلة لعرضها في صالونات منازلهم كعمل فني تراثي، لا سيما أنها ليست رخيصة الثمن. فعلى الرغم من الجهد الكبير المبذول فيها والوقت الذي يستغرق إنجازها، فإنها تباع وتصدرها إلى الخارج بسعر لا يتجاوز 600 ليرة سورية.. أي ما يعادل 12 دولارا أميركيا للدلة الواحدة.