باريس تستعيد النيويوركي جان ميشال باسكيا في معرض ضخم

أعماله شبهت بالجاز الارتجالي وصنفها بعض النقاد ضمن فن الغرافيتي

«تباك» التي رسمها عام 1984 (أ.ب.أ)
TT

جان ميشال باسكيا، الذي يستعيد ذكراه متحف الفن المعاصر في باريس، لم يكن فنانا فقط، أدهش العالم ونيويورك برسوماته. كان الفتى المولود في حي بروكلين النيويوركي يلعب، وليس فقط بالألوان الزاهية المخزنة في لا وعيه من جذوره التي عاش فيها كل حياته القصيرة. بل كان يلعب لعبة الأطفال السود الذين دهنوا حيطان المدينة بمخيلاتهم. لكن اللعبة سرعان ما تحولت إلى حقيقة، بدل المسدسات الحربية كانت الريشة وعبوات الألوان وبدل الجدران كانت الأخشاب والقماش والكرتون المقوى. وفوق كل هذا كان الفتى الحالم، جان ميشال باسكيه كان يحمل رأسا الأحلام التي في داخله تصدر ضجيجا، تؤرق، تستفز، تحطم، تصعق، وفوق هذا كله تحلم.

ما هي هذه الأحلام التي كانت تختزن في رأس الفتى الصغير، كيف نعرفها، ولماذا كانت بهذه الحدة وبهذا الزهو؟ وكيف كان يحلم؟ هل كان مغرما بجدران نيويورك أم فقط أخذ على عاتقه تكريسها كظاهرة فنية؟ أم أنه قرر في مكان ما من رأسه أن ينقل، بأمانة، أعمال مجايليه ومن سبقهم من أطفال زنوج نيويورك. على كل هذه الأسئلة لا أجوبة فعلية سوى إجابة واحدة صدرت منه في عام 1980 حين قال لصحافي سأله عن هذه الفوضى اللونية وعلاقتها بالفن؟. قال باسكيا لو: «لو ذهبت لتسأل غيري من أولئك المكرسين هل كنت ستسألهم عن الفوضى اللونية يا ترى؟». فقط يكفي هذا لنعرف أن الفتى كان يلعب ولا يلعب. كان يرسم أفكاره ورؤياه وأحلامه. وكان إلى هذا يمارس نوعا من الطفولة لم تكن من قبله ولن تكون على الأرجح من بعده ميسرة في عالم الفن.

اللعبة التي بدأت في رأس الفتى سرعان ما تحولت بفضل النقاد إلى فن. لقد دخل الفتى إلى التصنيفات الفكرية والفلسفية التي راجت في زمانه. فهو اعتبر بداية أنه ينتمي إلى مدرسة ما بعد الحداثة ثم بعد فترة وجيزة جدا سرعان ما أطلق النقاد على أعماله وصفا آخر محتفظين، طبعا، بالتصنيف السابق. هذه المرة أعماله انتمت إلى ما يسمى بالانطباعية الجديدة وهناك البعض صنفوها ضمن الغرافيتي أو رسوم الشوارع. تشبه أعمال باسكيه الجاز في الارتجال وفي العذوبة وفي النقاوة التي تتجسد في رسوماته. وربما، لهذا السبب تحول هذا الفتى إلى أيقونة في عصره.

والحق أن المعرض الذي يقام حاليا في باريس ويستمر لغاية العام المقابل، ليس المعرض الأول الذي تحتفي فيه باريس بهذا الفنان الاستثنائي. بل إنه ومنذ وفاته قبل عقدين من الزمن زار باريس بأكثر من معرض وذلك بسبب التهافت الجماهيري على معارضه وكذلك الحضور الاستثنائي له على مستوى السوق الفنية العالمية. إنه حقا فنان استثنائي. واللافت أن باسكيه في فترة قصيرة جدا، هي الفترة التي عاشها أنتج ما يزيد على تسعمائة لوحة وأكثر من ألف مخطوط. ورغم ذلك فإن أعماله تسجل أرقاما كبيرة في سوق المبيعات.

ولد جان ميشال باسكيا في نيويورك في 1960 في حي بروكلين لأب من هايتي وأم من بورتوريكو ينتميان إلى الطبقة الوسطى. في بداية حياته كان والده ووالدته يجولان به على المتاحف ودور العرض النيويوركية. في عام 1967 انفصل والداه فذهب للعيش مع أبيه برفقة شقيقته. بعد عام على هذه الحادثة التي أصبحت مفصلية في حياته صدمته سيارة بينما كان يلعب في الشارع، كانت إصابته خطيرة جدا الأمر الذي تطلب إزالة الطحال من جسمه. بعد هذا بفترة وأثناء فترة النقاهة التي كان يقضيها في البيت اكتشف كتاب «علم التشريح» لغراي أناتومي الذي كان يعتبره أهم كتاب قرأه في حياته. في عام 1976 بدأ مع صديقه آل دياز بالتجول والرسم على الجدران. في عام 1977 رسم أولى لوحاته الأمر الذي جعل هنري غولدزاهر يكتب عنه مقالا ومن بعد يلتقيه في أحد مطاعم المدينة ليطلب منه التعرف أكثر إلى أعماله. في عام 1978 ترك أهله وبدأ يعيش في أوساط الموسيقيين والفنانين وكان يعيش من البطاقات البريدية التي كان يرسمها حتى إن أندي وارهول اشترى منه واحدة ذات يوم. في 1979 بدأت الأصابع تشير إليه في نيويورك وأصبح من الفنانين المعروفين جدا في الأوساط الفنية وكانت الشهرة.

كان باسكيا يعيش من أجل الفن، فنه، وكان يعمل لساعات طويلة في مرسمه وبيته دون كلل كأنه كان يعرف أن ما ينتجه الآن لن يضيع هباء وأن وقته قليل جدا في الحياة. في عام 1988 وفي ليلة صاعقة، لا أحد يدري ما حصل فيها. أخذ باسكيه جرعة زائدة من المخدرات وفارق الحياة ليترك إرثا فنيا هائلا لم يتركه أحد وهو في مثل هذا العمر.