«تابونغ حاجي».. تجربة فريدة

لاحم الناصر

TT

في مثل هذا الوقت من كل عام تتفجر مشاعر الشوق في قلوب المسلمين في كل بقاع الأرض إلى بيت الله الحرام، وتهفو أرواحهم إليه، يحدوهم الرجاء في عفو الله ورحمته فتهون المشقة عليهم، لسان حالهم يقول من لاح له الأجر هانت عليه التكاليف، وقد كانت رحلة الحج فيما مضى رحلة شاقة؛ فهي رحلة العمر بالنسبة للمسلم؛ حيث كان الوصول إلى الديار المقدسة يستغرق، في بعض الأحيان، الكثير من السنوات يعبر خلالها الحاج العديد من البلدان، بل والقارات، فيتعرف على العديد من عادات الشعوب وتقاليدها وحضاراتها ويتعرض خلالها للكثير من الأحداث والأهوال، وهو ما دفع الكثير من العلماء إلى تدوين رحلات حجهم؛ فهي كتب تُقرأ حتى يومنا هذا، ولعل من أشهرها كتاب رحلة ابن بطوطة، وقد سمي هذا النوع من التدوين بأدب رحلات الحج.

إلا أن هذه المشقات والصعوبات وبُعد المسافات لم تثنِ المسلمين في أصقاع الأرض عن الحج وزيارة البيت الحرام، ومنهم مسلمو ماليزيا الذين كانوا يقدمون كل ما يملكون في سبيل القيام بالحج وقضاء نسكهم؛ حيث كان العديد منهم يقومون ببيع أثمن ما يملكون أو يرهنونه في دين يقترضونه للقيام بهذه الرحلة المباركة، فإذا عادوا إلى ديارهم بعد قضاء حجهم وقعوا في حرج بالغ؛ حيث يجدون أنفسهم وقد تراكمت عليهم الديون فخسروا ما يملكون، وهنا لمعت فكرة في عقل الاقتصادي الماليزي الشهير في جامعة الملايو البروفسور أونكو عبد العزيز، تقوم على مساعدة مسلمي ماليزيا على ادخار نفقات الحج مع استثمار مدخراتهم لهم عبر إنشاء صندوق ادخاري لهذا الغرض، وهو ما يعرف اليوم بـ«تابونغ حاجي»، أي: ادخار الحاج، بلغة الملاوي، ولا يسمح بالاشتراك في الصندوق سوى للمسلمين من مواطني ماليزيا أطفالا وبالغين، وتقوم فكرة الصندوق على 3 مرتكزات مهمة، هي: مساعدة المسلمين على الادخار، واستثمار هذه المدخرات عبر ضخها في الاقتصاد الوطني، وتهيئة رحلة الحج للمدخرين بكل يسر وسهولة، وقد بدأ الصندوق عمله عام 1963 م برأسمال لم يتجاوز 152 ألف رنغت هبة من الحكومة الماليزية، وكان عدد المدخرين فيه نحو 5 آلاف مدخر بحجم اشتراكات بلغت 15 مليون رنغت، بينما يصل عدد المدخرين اليوم إلى نحو 5 ملايين مدخر بحجم إيداعات تتجاوز 23 مليار رنغت، وتسعى الحكومة الماليزية إلى زيادة حجم المشتركين في الصندوق إلى ما يساوي 50% من عدد سكانها من المسلمين، وفي سبيل ذلك فقد يسرت جميع السبل أمام المواطنين للاشتراك في الصندوق؛ حيث يتم ذلك إما عن طريق الاستقطاع من الراتب وإما عن طريق الإيداع المباشر في حسابات الصندوق أو الشيكات أو الحوالات البريدية والبنكية، كما أنه يمكن للآباء الاشتراك لأطفالهم باشتراك شهري لا يقل عن 2 رنغت، بينما يبلغ الحد الأدنى لاشتراك البالغين 10 رنغت.

يقوم الصندوق باستثمار أموال المدخرين وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وما نتج من أرباح فإنه يوزعها على المدخرين بعد خصم الزكاة، وقد بلغ متوسط التوزيع لديه نسبة تتراوح بين 8 و12% سنويا ويعتبر هذا المعدل للتوزيع عاليا بجميع المقاييس، وقد أسهمت في تحقيق هذه الأرباح جودة الأصول التي يستثمر فيها الصندوق وتتنوع بين أسهم في مؤسسات مالية تعمل وفق أحكام الشريعة الإسلامية واستثمارات عقارية، وانخفاض تكاليف التشغيل؛ حيث لا يتجاوز عدد موظفيه نحو 1200 موظف يخدمون نحو 5 ملايين مدخر.

هذا فيما يتعلق بالجانب الادخاري والاستثماري، أما بالنسبة للحج فقد أنشأ الصندوق شركة خاصة به، تتولى جميع الترتيبات الخاصة بالحاج، بداية من الحصول على تأشيرة الحج وانتهاء بعودته إلى بلده، مع تقديم دورات تدريبية للحجاج تتعلق بالمناسك والإجراءات النظامية، وكل من تعامل مع الحجاج الماليزيين يعرف قدر الجهد الذي تبذله الشركة في هذا السبيل، وقد استطاعت الشركة خفض تكلفة الحج على الحاج الماليزي مقارنة بالدول المجاورة؛ حيث لا تتجاوز تكلفة الحاج الماليزي 2300 دولار، بينما تبلغ في إندونيسيا 3200 دولار وسنغافورة 5300 دولار.

ومن هنا فإنني أدعو الدول والمؤسسات المالية الإسلامية إلى استلهام هذه التجربة ومحاولة الاستفادة منها، في وضع برامج مماثلة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للمواطنين، مثل امتلاك المنازل أو زواج الأبناء أو التعليم وغيرها من الأهداف التي تؤرق المواطن وتعيش معه هما يؤرقه بالليل والنهار.

* مستشار في المصرفية الإسلامية