إغلاق مصنع يهدد مدينة بالاختفاء.. ظاهرة منتشرة في روسيا

البلاد تواجه صعوبات في التعامل مع مؤسسات أقيمت خلال الحقبة السوفياتية

TT

عندما كان مصنع الورق العتيق في هذه المدينة السيبيرية يحول كتل الخشب إلى لفافات من الورق المقوى تشبه بكرات الخيط العملاقة، لم يكن إدوارد ميركولوف يملك راتبا جيدا فحسب، بل كان يملك إيمانا قويا بالمستقبل، بأنه لا يزال هناك مكان في روسيا فيه عمل لعامل في منتصف العمر مثله. وإلى جانب ميركولوف كانت تعمل زوجته وأخوها وجيرانه، يتملكهم جميعا الإحساس ذاته. ويقول ميركولوف عن المصنع «لا يوجد شيء آخر هنا، فمن دون المصنع لا أعلم ماذا يمكنني أن أعمل».

لكن المصنع يئن، وقد لا ينجو ليتمكن من توفير فرص عمل لجيل آخر من العمال. وإذا أغلق المصنع فهل ستختفي المدينة أيضا؟

يعود إنشاء المصنع إلى عقود القوة، عندما أنشأ الشيوعيون تجمعات مثل بايكاليسك في جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي المترامي الأطراف. كانوا يعمدون إلى اختيار مكان ثم إقامة مصنع أو عدة مصانع ثم شحن الأفراد بالآلاف إليه. وربما تكون استراتيجية العضلات هذه قد قادت النهضة التي عاشها الاتحاد السوفياتي، لكنها تحولت إلى نقمة تعاني منها اليوم روسيا، المليئة بالتجمعات التي تعتمد بشكل كامل على مصنع كهذا. بيد أن المصنع، الواقع على شواطئ بحيرة بايكال ذات المناظر الرائعة والمياه العذبة، تعرض للإغلاق في عام 2008 قبل أن ينقذه الكرملين كما هو الحال في الكثير من المناطق في روسيا.

تحول المصنع الذي أنشئ في أواسط الستينات، والذي تمت خصخصته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إلى أثر لحقبة السوفيات الصناعية، وتهديد بيئي في الوقت ذاته، إذ يعتمد على تكنولوجيا تعود إلى الحقبة السوفياتية التي عفا عليها الزمن، وقد اعترف العمال بأن المصنع سيتعرض على الأرجح إلى إصلاح، أو سيتم إغلاقه إن عاجلا أو آجلا.

كان أغلب عمال المصنع، أو آبائهم أو أجدادهم، والذين يبلغ عددهم 2000 عامل أو نحو ذلك، قد وصلوا إلى بايكاليسك إبان الحقبة السوفياتية على وعد بوظائف مدى الحياة. والآن ينقلب التاريخ مرة أخرى عليهم.

ولا عجب في أن يحن ميركولوف وزوجته يلينا، اللذان يعيشان مرحلة الأربعينات من عمرهما ويعملان في المصنع منذ الثمانينات، إلى الماضي.

يذكر ميركولوف أن المصنع كان يرسلهما في عطلات ووفر لهما شقة مرتبة. ويقول «الحياة كانت أجمل في الحقبة السوفياتية، كان هناك استقرار، كنا نتقاضى رواتب ولم ترتفع الأسعار في المتاجر».

وقالت عائلة ميركولوف والعمال الآخرون إنهم تضرروا نتيجة الانتقادات التي وجهت للمصنع بأنه لوث بحيرة بايكال، العميقة جدا، والتي ترى بعض التقديرات أنها تحوي 20% من المياه العذبة في العالم. وقال العمال إنهم يحبون البحيرة بقدر علماء البيئة، وما كانوا ليقوموا بأي شيء يمكن أن يتسبب في ضررها.

بيد أن البعض، من أمثال ميركولوف، اعترفوا بأن السوفيات كانوا حمقى بإقامة المصنع بالقرب من البحيرة. وأضاف «من الطبيعي ألا توجد صناعة تقوم على استخدام الكيماويات هنا. لكن لا بد من القيام بشيء ما حتى يتمكن الأفراد من العمل، فلا أحد يرغب في ترك عمله».

كيفية التعامل مع كارثة مئات الآلاف من العمال في المدن الروسية التي تقوم على مصنع واحد باتت واحدة من أكثر المشكلات الاقتصادية المؤرقة التي تواجه المسؤولين الحكوميين على كل المستويات في روسيا، في الوقت الذي يواصل فيه تباطؤ النمو في الاقتصاد العالمي خنق أسعار الطاقة، وهو ما يحرم الحكومة من عائدات ضخمة. وتأتي بايكاليسك، التي يبلغ تعداد سكانها نحو 15.000 نسمة، حالة لدراسة لهذه المخاطر.

تعرض المصنع، الذي كان يملكه في تلك الفترة أوليغ ديريباسكا، أحد أقطاب المجتمع الروسي الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع الكرملين، في أواخر عام 2008، لضغوط قوية نتيجة لخسائر مالية قوية وشكاوى بأن المصنع ينتهك القوانين البيئية عبر إلقاء الكلور والمعادن الثقيلة والمواد الكيماوية المسرطنة الأخرى في ماء البحيرة.

اضطربت المدينة، وما زاد الطين بلة توقف الرواتب، مما دفع أكثر من 60 سيدة من العاملات في المصنع وبينهن زوجة ميركولوف لتنظيم مظاهرة الجوع، وأقمن خيمة أمام الإدارة المحلية. وتقول لوديميلا باشكوفا، التي نظمت المظاهرة «لقد حدث ذلك لأنهم لا يحتاجوننا، لا مالك المصنع ولا السلطات. لم يتحمل أحد المسؤولية».

وبعد عدة أيام، رضخ المصنع ودفعت الرواتب. لم يكن الوضع في بايكاليسك بالغريب. فقد اندلعت الاضطرابات في كل أنحاء روسيا منذ أن بدأت الأزمة، في ما يطلق عليها المدن الفردية، والأماكن التي بنيت حول مصنع واحد. ولعل أصدق الأمثلة على ذلك إغلاق مصنع الكيماويات الذي تم تسريح عماله في مدينة بيكاليوف خارج مدينة سان بطرسبرغ، الطريق السريع العام الماضي.

وكان على رئيس الوزراء فلاديمير بوتين الذهاب إلى بيكاليوف لتهدئة الوضع المتوتر، وأقام لقاء شعبيا أذاعته القنوات التلفزيونية مع المسؤولين والمديرين التنفيذيين، وكان بينهم ديريباسكا، الذي تملك شركته المصنع، ووجه بوتين اللوم إلى ديريباسكا الذي وعد بالتعامل بصورة أفضل مع العمال. وقال المتخصصون في البيئة إن الحكومة بحاجة إلى توفير فرص عمل بديلة لعمال المدن التي تقوم على مصنع واحد. وأشاروا إلى أن بايكاليسك يمكن أن تتحول إلى مركز سياحي رئيسي، لأن بحيرة بايكال واحدة من أشهر المعالم السياحية في روسيا. لكنهم قالوا إن المدن أصبحت أكثر اعتمادا على المصنع الواحد لمدة طويلة، ولذا لا يمكنهم تخيل أنفسهم وقد امتهنوا حرفة أخرى.

* خدمة «نيويورك تايمز»