وزيرة المالية اللبنانية لـ «الشرق الأوسط»: مضطرون لتغطية الاستحقاقات ونبحث عن «مخارج» لتمويل 3.4 مليار دولار

ريا الحسن أكدت أن لبنان سيدرس في العام المقبل المفاضلة بين الاستدانة بالليرة أو بالعملات الأجنبية

وزيرة المالية اللبنانية ريا الحسن
TT

لا أحد يحسد وزيرة المال في لبنان على موقعها؛ فهذه الوزارة التي تتلقى السهام نيابة عن الحكومة والدولة، على غرار القاعدة السائدة في أغلب دول العالم وكأنها هي صاحبة القرار في فرض الضرائب والرسوم، تتلقى أيضا، في لبنان، سهام وزراء وسياسيين يشاركون في الحكم والحكومة. بل يصل الأمر إلى حد محاسبتها واستجوابها عن مراحل سابقة، ربما تحت شعار «الحكم استمرار».

لا تتنكر ريا الحسن لإنجازات أسلافها وتتولى باندفاع «حق الرد» على ما يطالهم من «مظالم»، ولا تجد حرجا «في تهمة» الانتماء إلى المدرسة السياسية والمالية للرئيس الراحل رفيق الحريري، التي يمثلها الرئيس سعد الحريري. لكنها، وكما يضع الجميع النقاط على الحروف، تتمنى بصدق ألا تتحول «مالية الدولة» إلى حلبة صراع سياسي؛ فالخلافات القائمة لها منابرها وحلباتها، وحساسية تناول الأمور المالية تفرض أقصى درجات الموضوعية والتجرد.

من هنا وجب أن يتطرق لقاء «الشرق الأوسط» مع الحسن، التي تردد باعتزاز أنها أول امرأة عربية تتولى وزارة المال، إلى «الاشتباك» المالي المتواصل، وإلى القضايا المحورية التي تدخل في أولويات العمل والمهام. وهنا وقائع الحوار:

* في ظل احتدام المواقف السياسية وإدخال القضايا المالية في دوامة الخلافات الداخلية مع ما يرافق ذلك من تشكيك في بيانات الإنفاق التي تصدرها الوزارة، ألا تخشون أن يؤثر ذلك على صدقية الأرقام والنسب لدى المؤسسات الدولية؟

- هذا أمر حيوي في جلاء جانب مهم جدا من حقيقة ما يجري، وسأكون صريحة في تناول هذا الأمر كما تحدثت أمام لجنة المال النيابية، فصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسات الاتحاد الأوروبي وشركات التصنيف الدولية وسواها لا تأخذ بالبيانات كما تصدر، بل يقومون بعمليات تدقيق ومراجعة ومتابعة تفصيلية لمنهجية إعداد الحسابات المالية وفق معايير مشددة وشفافة، حرصا على مصداقيتهم هم، وجميعهم يقر بأن بياناتنا صحيحة وتنسجم مع الأصول المحاسبية في الإعداد والاستنتاج.

ومن المهم التوضيح بأنه ينبغي الفصل بين الحسابات الصحيحة كما تصدر عن وزارة المالية، وتقرير قطع الحساب وحساب المهمة الذي يتم فيه جمع البيانات وتدقيقها من خلال مقابلتها بالمستندات الثبوتية للصرف. وهذه العملية التي يمكن تصنيفها كرقابة لاحقة هي المهمة التي يتوجب على الوزارة إنجازها، بينما حسابات الصرف والدفع والجباية والتحصيل هي حسابات صحيحة، وإلا فإن المؤسسات الدولية، على اختلافها وتنوعها، تكون مغامرة باسمها وسمعتها ما دامت تقر بصحة هذه العمليات وتصدر تقاريرها وترقباتها وفقا لهذه الأرقام.

وما ينطبق على المؤسسات المالية الدولية ينطبق أيضا على شركات التصنيف التي تحدد موقع الديون الحكومية، كذلك البنوك الاستثمارية الخارجية والمحلية التي تقوم بإدارة وتسويق سندات الدين الدولية اعتمادا على التصنيف، وعلى تحليل مكانة المصدر (أي الدولة اللبنانية)، ومدى قدرته على الإيفاء بالتزاماته، وفقا لبيانات مالية مدققة ومتابعة عن كثب من قبلها.

وبالمحصلة أؤكد أن وزارة المال كانت دوما سباقة في نشر وتوزيع المعلومات والإحصاءات في جميع عمليات الدفع والجباية والتحصيل، وأن جميع المؤسسات الدولية من صندوق النقد والبنك الدوليين إلى الاتحاد الأوروبي إلى شركات التصنيف العالمية وبنوك الاستثمار الدولية، تستند إلى الأرقام والمعلومات التي تنشرها وزارة المال، وهذه المؤسسات تحترم نفسها، ولا يمكن لها أن تتزود بمعلومات مغلوطة أو مشكوك بها، وهذه المعلومات تستعمل لتقويم الوضع الاقتصادي. وبحسب تصنيف المؤسسات الدولية فإن وضعنا الاقتصادي جيد، وهو مستند إلى الأرقام والمعلومات التي نقدمها، فضلا عن أن المؤسسات الدولية لا تنظر إلى الأرقام فحسب، بل إلى منهجية تحضيرها وهذا الأمر يتم من خلاله المقارنة مع بلدان أخرى.

* لكن لم نلمس أن «المعارضين» وصلوا إلى قناعة بما تعلنه الوزارة من أرقام وبيانات، وما زالت الحملة متواصلة على وزارة المال والتشكيك ببياناتها وأرقامها؟

- لقد شاركت في أربع جلسات استماع في لجنة المال والموازنة، وتحدثنا عن تفاصيل الأمور المالية. ولكن ماذا بعد ذلك؟ منذ المرة الأولى قدمت الحل، ولكن يبدو أنه لا أحد يريد أن يسمع. قد يكونون في انتظار أجوبة مختلفة، ويريدون أن يسمعوني، أعترف بأمور غير موجودة وغير صحيحة. وأقترح على من يتحدث عن وجود «فضائح وسرقة ونهب» في وزارة المال، الاستعانة بشركات عالمية للتدقيق في الحسابات المالية منذ عام 1993.

* ما هي المشكلة الحقيقية من وجهة نظركم؟

- المشكلة الحقيقية أن القانون لا يلاحظ كيفية المعالجة المالية في بلد ليس لديه موازنة مقرة دستوريا لمدة 5 سنوات متتالية، فهذه حالة غير عادية بامتياز، وهي تفرض في رأيي عدم الخلط بين مساري تقديم قطوعات الحسابات وتقديم حسابات المهمة، فمسألة حسابات المهمة تستلزم وقتا في حين أن الملح هو إقرار الموازنة التي تشمل أولويات الصرف وتتضمن إصلاحات مهمة، دون التخلي عن ضرورة إنجاز حسابات المهمة وفق تصور علمي وموضوعي يحظى بتأييد الجميع، لأن حال التوتر وعدم اتخاذ القرارات، ستؤثر سلبا على الوضع الاقتصادي إذا طالت.

وأود أن أوضح أن عدم وجود حسابات مهمة بين العامين (2001 و2008) متعلق بمشكلة بدأت منذ عام 1993، وهو عدم تمكن وزارة المال من تكوين ميزان دخول. وصحيح أن ديوان المحاسبة لا يستطيع قانونا التدقيق في قطع الحساب المتعلق بإقرار الموازنة، إلا بوجود حساب يدقق في الوقت نفسه. ولكن منذ عام 1997 إلى عام 2003، أقرت كافة قطوعات الحسابات، وبالتالي كل الموازنات أقرها مجلس النواب، من دون أن يكون ثمة حساب، وكان ديوان المحاسبة يحتفظ بحقه في إجراء الرقابة اللاحقة على هذه الحسابات. ونحن لا نسقط دور ديوان المحاسبة، ولا نمنعه من القيام بهذا التدقيق الشامل ألا وهو المطابقة بين حساب المهمة وقطع الحساب. وما يهمني اليوم هو أن أتوصل مع ديوان المحاسبة، ضمن الإطار المؤسسي، إلى حل لمسألة ميزان الدخول، وأتمنى عدم تسييس الموضوع، لأنه موضوع تقني مع ديوان المحاسبة.

* إذا كانت الأمور المالية واضحة وأظهرتم «النية والتوجه» لمعالجة المشكلة المتعلقة بحساب المهمة للسنوات السابقة، فما الدافع لاستمرار «التصعيد المالي» والحديث عن خفاياه، وخصوصا ما يتعلق بالإنفاق خارج القاعدة الاثني عشرية؟

- بدأ الهجوم عندما أثير موضوع الـ11 مليار دولار الذي يمثل الإنفاق الإضافي فوق سقف اعتمادات 2005، وقلنا وقتها إن هذا الرقم أتى من الموقع الإلكتروني لوزارة المال؛ فإذا كان في نيتنا إخفاء الأرقام؛ هل كنا وضعنا هذا الرقم على موقعنا الإلكتروني ليتم استعماله كأدلة ضدنا؟ نحن من نشر هذه الرقم انطلاقا من الشفافية وعدم وجود أي شيء مخفي، ففي النتيجة شاركنا جميعا في إنفاق هذا المبلغ على تغطية عجز «كهرباء لبنان»، ومتوجبات الديون، وتعويضات حرب يوليو (تموز)، وتعزيز الأجهزة الأمنية والعسكرية، خصوصا بعد حرب نهر البارد، أي بإمكاننا أن نعدد وجهة الإنفاق الذي اشتركنا به جميعا. وأكثر من ذلك، ثمة قوانين أقرها مجلس النواب تدخل من ضمنها متوجبات مالية نحن ننفذها فيما يتعلق بزيادة غلاء المعيشة وفروقات سلسلة الرتب والرواتب والمتقاعدين والمتعاقدين، فضلا عن أمور أخرى نفذنا بموجبها أوامر مجلس النواب، بموجب قوانين، ومجلس الوزراء، بموجب مراسيم.

لو كان صحيحا أننا نريد أن نخفي معلومات ونريد أن نسقط الحسابات وأن نحول دون التدقيق فيها، هل كنا قدمنا كل قطوعات الحسابات مع حفظ حق كل الجهات الرقابية لإجراء تدقيق لاحق على هذه الحسابات؟ لهذا أسقطنا مبدأ مرور الزمن، ومتى أرادت الجهات الرقابية تستطيع أن تدقق في الحسابات، وإذا أرادت أن تجري تدقيقا لاحقا لكل هذه الحسابات فنحن جاهزون. نستطيع بعد أشهر التحدث عن القوانين وتفسيراتها، وماذا يفعل كل طرف، والعودة بالتاريخ إلى 17 و20 سنة إلى الوراء، ولكن في رأيي، الأكثر جدوى هو الخروج بحل لمعالجة وضع يعلم الجميع لماذا دخلنا فيه. والحل الأنسب للسير به هو الحل الذي طرحناه مع ديوان المحاسبة. إن الموضوع تقني وليس سياسيا، ونحن نملك الحل الذي أتمنى أن يُعتمد في أسرع وقت ممكن.

* لكن إذا استمرت الأمور على المنوال الحالي، وتأخر أكثر إقرار مشروع الموازنة للعامين (الحالي والمقبل) فثمة مأزق جديد يرتبط بحاجة الدولة إلى التمويل وعدم وجود تشريع يسمح بالاستدانة؟

- هذا صحيح، في استطاعتنا تمويل الحاجات المالية بالليرة دون مشكلة، لكن هناك استحقاقات على الخزينة بالعملات الأجنبية أدخلناها في مشروع الموازنة للحصول على تفويض المجلس النيابي بملاقاتها، نحن حاليا في مرحلة انتظار، وثمة وقت لبدء استحقاق الديون بالعملات الأجنبية في العام المقبل، أما إذا استمر التأخير فقد أعددنا في الوزارة مشروع قانون مستقل يسمح لنا بالاستدانة. وفي تصوري أن المسألة متعلقة أكثر بالوضع السياسي العام، ويمكن أن نرى إقرار موازنتي العامين 2010 و2011، بسهولة إذا بلورت الاتصالات المحلية والخارجية حلولا ما للأزمة السياسية القائمة، أما إذا تأخرت الحلول، فإن الوقت ضيق لتمرير موازنة العام الحالي، وبالتالي ستصبح وضعيتها مشابهة للموازنات التي لم تقر منذ عام 2006، حيث إن كل عمليات الصرف والإنفاق لا تزال تجري، وفق القاعدة الاثني عشرية، على قاعدة موازنة عام 2005. مع الإشارة إلى أن كل إنفاق إضافي تم إقراره في مجلس الوزراء.

* ماذا لو حال الوضع السياسي أيضا دون إقرار مشروع القانون الخاص بتغطية الاستحقاقات في العام المقبل؟ وهل هي فعلا بحدود 3.4 مليارات دولار؟

- نعم، أعتقد أنها بهذه المبالغ، ونحن ملزمون بإيجاد الحلول والمخارج، وثمة بدائل من المبكر التفكير فيها أو طرحها حاليا. طبعا نحن لا نطمح إلى هذا النوع من الحلول، لا سيما أن معدلات الفوائد السائدة حاليا في الأسواق العالمية تمنحنا فرصة مناسبة لإعادة تمويل أو استبدال السندات التي تستحق تباعا في العام المقبل. وذلك على غرار العملية التي ننجزها حاليا لإعادة تمويل استحقاق في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، بقيمة أصلية تبلغ 700 مليون دولار، فضلا عن الفوائد العائدة للإصدار.

في الوضع الحالي، لا نستطيع الاستفادة من وضع الأسواق للشروع مبكرا في ملاقاة استحقاقات سندات الدين الأجنبية التي تستحق العام المقبل، لأننا بلغنا السقف المسموح لنا بالاستدانة بالعملات الأجنبية. نحن مضطرون إلى تغطية الاستحقاقات مع فوائدها بحدود 3.4 مليارات دولار في عام 2011، أما الحاجات المالية الإضافية للدولة فسننظر في وقتها ما هي المصلحة والأفضلية بين الاستدانة الداخلية بالليرة أو بالعملات الأجنبية في الأسواق العالمية.

* رغم كل ما يجري داخليا لا يزال الاقتصاد الوطني في وضعية مناسبة لتحقيق نمو إيجابي جيد، ما تقديركم لنسبة النمو هذا العام؟

- لقد استفاد الاقتصاد من الأداء القوي لأغلب القطاعات في النصف الأول من العام الحالي، الذي تقلص نسبيا في النصف الثاني، ونعتقد أن الحصيلة ستكون في حدود 7 في المائة، وربما ارتفعت إلى 8 في المائة في ضوء الأداء الذي سنرصده في الشهرين الأخيرين من السنة.

* ماذا عن معالجة الدين العام الذي بات يقارب 52 مليار دولار؟

- لدينا استراتيجية واضحة في مقاربة المشكلة المزمنة التي يمثلها الدين العام، هدفنا الأساسي تخفيف الأعباء التي تعكسها هذه الكتلة على الاقتصاد، وذلك عبر طريقين أساسيين؛ الأول: تخفيف ما أمكن من الكتلة ذاتها، والثاني حفز النمو الذي يؤول إلى تكبير حجم الناتج المحلي، وبالتالي تحقيق تراجع متواصل لنسبة الدين إلى الناتج.

على هذا، فإن تخفيف حجم كتلة الدين يجب أن يتم من خلال الفائض الأولي في الموازنة، لكن التخفيف المهم والوازن لا يتم إلا عبر تخصيص بعض المرافق والأصول مثل «رخص الاتصالات». وعلى خط مواز، فإن الوتيرة المالية التي نسير بها حاليا تحقق تقدما إيجابيا في خفض نسبة الدين إلى الناتج، بحيث نقدر أن تصل في نهاية هذا العام إلى نحو 130 في المائة، اعتمادا على النمو من جهة، والفائض الأولي من جهة مقابلة.

* لا يبدو أن التخصيص وارد في المرحلة الحالية؟

- هناك أفكار لدى وزير الاتصالات سيعرضها ضمن خطة على مجلس الوزراء، وقد تحمل نوعا من التخصيص الجزئي في بعض المجالات على صعيد الرخص في «الخليوي» و«البروباند»، حيث يجري الحديث عن طرح شرائح أسهم للاكتتاب العام، أما في قطاع الكهرباء فالتوجه إلى إصلاح شامل عبر الاستثمارات الجديدة التي تصل إلى 5 مليارات دولار خلال 5 سنوات تم الاتفاق على ضمها ضمن مشاريع الموازنات، مع الإشارة إلى فتح الباب أمام خيارات تمويل أخرى من خلال الصناديق العربية والقطاع الخاص بحسب التقييم والكلفة.