سياسة «التيسير الكمي»: مغامرة خطرة أم وصفة ناجحة؟

بيرنانكي أمام الاختبار في تحقيق أهداف النمو وخفض البطالة في الولايات المتحدة

TT

سياسة «التيسير الكمي الثانية» التي أجازها مصرف الاحتياط الفيدرالي الأميركي الأسبوع الماضي، وقرر بموجبها ضخ 600 مليار دولار في شراء سندات حكومية وغير حكومية حتى يونيو (حزيران)، أصبحت نقطة جدل ساخن في أميركا وخارجها. وقبيل انعقاد قمة العشرين اليوم في سيول أثير الكثير من الاعتراضات على السياسة الأميركية النقدية ومخاطرها على مستقبل الدولار وأسعار الصرف العالمية والتضخم واحتمالات «إحداث فقاعة موجودات» ربما تقود إلى إعادة إنتاج الأزمة المالية. «الشرق الأوسط» تناقش في هذا المقال أبعاد سياسة «التيسير الكمي الثانية» وما إذا كانت تمثل مغامرة خطرة يمكن أن تنتج «أزمة مالية جديدة» أم أنها وصفة علاجية ناجحة لشفاء الاقتصاد الأميركي الذي يعاني عدة أمراض لم يتمكن من التعافي منها منذ أزمة أسواق المال في مايو (أيار) عام 2008، حين فقدت الأسهم الأميركية 768 مليار دولار في 20 دقيقة. وسياسة «التيسير الكمي» هي عبارة ضخ أموال لتحفيز نمو الاقتصاد حينما تفشل الوسائل التقليدية مثل خفض أسعار الفائدة إلى الصفر أو إلى معدل يقارب الصفر.

وتهدف هذه السياسة إلى خفض الفائدة طويلة الأجل على الأدوات المالية ذات العائد الثابت مثل السندات الحكومية وغير الحكومية وبالتالي تصبح هذه السندات غير جاذبة للاستثمارات لأن العائد عليها ضئيل مقارنة بالعوائد الاستثمارية المتغيرة في الأسهم والقطاعات الإنتاجية وإقراض الشركات. بهذه الحيلة يأمل رئيس مصرف الاحتياط الفيدرالي أن يجبر البنوك الأميركية على الاستثمار في القطاعات الإنتاجية عبر زيادة القروض إلى القطاع الخاص والشركات، وبالتالي يتمكن من رفع معدل النمو الاقتصادي وإيجاد فرص عمل جديدة لجيوش العاطلين عن العمل في أميركا الذين قارب معدلهم 10% من القوة العاملة.

* ثلاثة محاور

* تأمل أميركا من خلال سياسة التيسير الكمي الثانية حل أزمتها المالية عبر ثلاثة محاور رئيسية، أولها تغيير مسار التدفقات المالية من أدوات الاستثمار الثابتة إلى القطاعات الإنتاجية التي توفر فرص عمل وترفع من حجم الصادرات. وثانيا خفض سعر صرف الدولار لزيادة القوة التنافسية للبضائع الأميركية مقارنة بنظيراتها الآسيوية والأوروبية في السوق المحلية الأميركية وفي الأسواق العالمية. ووفقا للمنطق الاقتصادي، كلما زاد المعروض النقدي من عملة ما، انخفض سعر صرف العملة حسب معادلة العرض والطلب، وكلما كانت عملة الدولة ضعيفة، كانت بضاعتها أرخص. وثالثا الضغط على الصين صاحبة الحصة الأكبر من الصادرات إلى السوق الأميركية والأسواق العالمية لرفع صرف عملتها اليوان. ومن المهم في هذا الصدد ملاحظة أن أميركا طالبت في اجتماع قمة العشرين الماضية في سنغافورة بوضع سقف للفائض في الحساب الجاري، بحيث لا يتجاوز 4.0% من إجمالي الناتج المحلي. وهذا الشرط رفضته الدول صاحبة الفوائض وعلى رأسها الصين «50.0% نسبة الفائض إلى الناتج المحلي»، كما رفضته كذلك ألمانيا. ويلاحظ أن هذا الشرط الذي لا يتوافق مع حرية التجارة، وضعه وزير الخزانة الأميركي تيموثي غايتنر على أمل خفض صادرات الصين إلى الولايات المتحدة، لمساعدة الشركات الأميركية على زيادة مبيعاتها في السوق المحلية. إضافة إلى هذه الأهداف التي تأمل أميركا تحقيقها من سياسة التيسير الكمي وتبني سعر الفائدة المنخفضة على الدولار لأجل طويل، هنالك هدف آخر وهو تقليل حجم أقساط الديون القومية التي تدفعها للدائنين. ويذكر أن حجم الدين الأميركي يبلغ 13.050 تريليون دولار. ولكن هل نجحت أميركا في تحقيق هذه الأهداف؟

حتى الآن ومنذ إعلان سياسة «التيسير الكمي الثانية» أسهمت هذه السياسة بشكل مباشر في إضعاف الدولار كما رفعت أسعار السلع وعلى رأسها النفط والذهب والمعادن الأخرى. ويقول اقتصاديون، وعلى رأسهم رئيس البنك المركزي الأميركي السابق آلان غرينسبان، إن سياسة التيسير الكمي الثانية ستعمل على رفع التضخم لمعدل قياسي سيكون من الصعب السيطرة عليه في المستقبل. ولكن بعض الاقتصاديين، وعلى رأسهم رئيس البنك الدولي روبرت زوليك، يرى أن سلبيات سياسة «التيسير الكمي الثانية» ضخمت، خاصة آثارها في الاقتصادات الناشئة. يقول زوليك في تصريحات أمس، إن التدفقات الدولارية على الأسواق الناشئة كانت ستحدث سواء اتخذت أميركا سياسة التيسير الكمي الثانية أم لا، ببساطة يقول إنه ستتدفق هذه الاستثمارات بسبب الفارق في معدلات النمو وبالتالي الفارق في العائد الأعلى الذي ستحققه الشركات الأميركية في أسواق آسيا والأسواق الناشئة مقارنة بالسوق الأميركية.

* لم تسهم في خلق وظائف

* ويقول اقتصاديون أميركيون إنه رغم مخاطر سياسة التيسير الكمي الثانية المتمثلة في إضعاف الدولار واحتمالات «التضخم الجامح» الذي سيأكل القيمة الحقيقية لمدخرات ودخول مواطني أميركا، لا تمنح السياسة ضمانات بشأن إنعاش الاقتصاد وتنشيط الإقراض للأعمال التجارية الصغيرة والمتوسطة. في هذا الصدد تقول سارا بالين مرشحة نائب الرئيس في الانتخابات الرئاسية الماضية «إن ما نرغب فيه تحقيق نمو ثابت ودائم وغير مصطنع». ومن الأسئلة التي يطرحها الاقتصاديون: لماذا لم تختر أميركا الطريق السهل في تحفيز الاقتصاد مثلما فعلت عدد من الدول التي قامت بضخ أموال مباشرة في الاقتصاد مثلما فعلت الصين؟. الصين اتجهت إلى الاستثمار مباشرة في الشركات الصينية لإنعاش التوظيف وحققت مكاسب مادية مباشرة من جباية الضرائب على الوظائف التي خلقتها من أموال التحفز. ولجأت بريطانيا إلى شراء حصص رئيسية في الشركات المصرفية، وحققت أرباحا من ذلك.

ورغم أن حزمة «التيسير الكمي الأولى» التي ضخ فيها مصرف «الاحتياط الفيدرالي» 1.75 تريليون دولار، نجحت في وقف إفلاس العديد من الشركات عبر تنظيف محافظها من الأصول المالية الخطرة والسندات الفاسدة وجزء من الرهونات العقارية، ولكنها لم تنجح في تحقيق أهداف النمو الاقتصادي وخفض معدل البطالة في أميركا الذي واصل الارتفاع إلى قرابة 10.0%.

وسط هذا الفشل تبنى بن بيرنانكي حزمة ثانية من «التيسير الكمي» وسط انتقادات واسعة من بعض زملائه ورؤسائه السابقين وكبار الاقتصاديين في أميركا وخارجها.

* انتقادات حادة

* بورصة الانتقادات لسياسة «التيسير الكمي الثانية» افتتحها آلان غرينسبان رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي السابق الذي وصف في ندوة مقفولة بنيويورك الأسبوع الماضي سياسة «التيسير الكمي الثانية» بأنها مغامرة خطرة، وربما ترفع معدل التضخم بمعدل كبير ولكنها قد لا تؤدي إلى تحريك النمو الاقتصادي. ووافقه في ذلك رئيس مصرف الاحتياط الفيدرالي في كنساس توماس هوننغ الذي قال إن الخطوة ستقود إلى موجة ارتفاع كبيرة في التضخم وسيكون من الصعب السيطرة عليها في المستقبل. من جانبه قال جوزيف ستيغلتز، الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، إن على مجلس الاحتياط الفيدرالي أن يضخ أموالا في القطاعات الإنتاجية، بدلا من التركيز فقط على ضخ الأموال في البنوك وأسواق المال. وقال ستيغلتز إن سياسة «التيسير الكمي الثانية» التي تسعى إلى تقليل العائد على السندات والأدوات ذات العائد الثابت أملا في جذب البنوك والمستثمرين الكبار للاستثمار في القطاعات الإنتاجية قد لا تكون سياسة ناجحة. وأشار ستيغلتز إلى أن الاحتياط الفيدرالي بهذه السياسة يرهن مستقبل النمو وتوفير فرص العمل لقطاع المصارف التي تهتم بالربح أكثر من اهتمامها بتشغيل البطالة أو النمو الأميركي. وقال ستيغلتز إن إقراض الأعمال التجارية المتوسطة والصغيرة أحد أهم مفاتيح النمو الاقتصادي وتشغيل المواطنين، ولكن البنوك لا تتوسع في إقراض هذه الأعمال، لأنها تطلب منها رهونا عقارية مقابل القروض في وقت تنخفض فيه أسعار العقارات. ودعا ستيغلتز في تصريحات تلفزيونية في نيويورك إلى ضخ أموال مباشرة في القطاعات الإنتاجية مثلما فعلت الصين ودول أخرى. وفي الواقع فإن البنوك الأميركية التي حصلت على أموال رخيصة بنسبة فائدة تقارب الصفر، تسعى منذ فترة إلى دعم مراكزها المالية لمقابلة احتياجات الكفاءة الرأسمالية التي تطلبها اتفاقية بازل الثالثة كما تسعى إلى تحقيق أرباح من المتاجرة بالأموال في السلع والمعادن والمضاربة على الأسهم في الأسواق الناشئة. وهذا حقيقةً ما يقلق بال الدول الناشئة التي تتخوف من حدوث «فقاعة موجودات» تسهم لاحقا في إنتاج أزمة مالية شبيهة بالأزمة التي ضربت الأسواق المالية الآسيوية في نهاية القرن الماضي. يضاف إلى ذلك أن سياسة «التيسير الكمي الثانية» التي تواصل إضعاف الدولار على حساب العملات الرئيسية الأخرى مثل اليورو والين تزرع الرعب في اقتصادات أوروبا التي ترى في هذه السياسة تشويها لسعر صرف الدولار وإحداث سياسة نقدية مصطنعة تبتعد كثيرا عن مبدأ «سياسة العملات الحرة» التي تترك سعر العملة لقوى السوق. وبالتالي تهدد استقرار سوق الصرف العالمية وتضرب الصادرات الأوروبية من خلال تقليل تنافسية البضائع الأوروبية المسعرة باليورو.

في هذا الصدد يقول وزير المالية الألماني فولفجانغ شويبله في تصريحات للصحافة الألمانية «أن حجة أميركا على الصين القائلة بأن الصين تسيطر على سعر صرف اليوان قد سقطت الآن وباتت حجة مدحوضة لأن أميركا تقوم الآن بالسيطرة على سعر الدولار وتخفيضه عبر ضخ أموال في السوق، بدلا من تركه حرا يعوم في الأسواق».

ولكن في مقابل سيل الانتقادات التي يواجهها رئيس الاحتياط الفيدرالي بن بيرنانكي، هنالك اقتصاديون متعاطفون معه، من بين هؤلاء رئيس البنك الدولي روبرت زوليك الذي يعتقد أن سياسة التيسير الكمي مهمة. ويقول «لولا سياسة التيسير الكمي لكانت الولايات المتحدة تعرضت لكساد شبيه بالكساد الكبير الذي ضرب الولايات المتحدة في الثلاثينات من القرن الماضي».

من هذا المنطلق يمكن القول إن سياسة التيسير الكمي الثانية، رغم مخاطرها العديدة وما جلبته من انتقادات وتوتر في علاقات أميركا مع حلفاء رئيسيين في أوروبا وآسيا، ليست هنالك ضمانات كافية تشير إلى نجاحها في تحقيق أهداف زيادة معدل النمو وتوفير فرص عمل جديدة. وربما تضع هذه السياسة مصير بيرنانكي في خطر حقيقي.