خطف المراسلين.. ومزيد من المسؤولية والتدريب للتقليل من استفحال الظاهرة

جدل في فرنسا على خلفية حفلات الدعم للصحافيين المختطفين

مطالب بمنح الصحافيين المتخصصين في مناطق النزاع دورات متخصصة للتعامل مع الأجواء المتوترة
TT

حفل ضخم في «الزينيت» أكبر قاعات العاصمة باريس بمشاركة نجوم الغناء الفرنسي، وبث على الهواء يصل إلى العاصمة الأفغانية كابل عبر قناة «تي في 5 العالم» باللغتين الفرنسية والفارسية، وتغطية خاصة على قناة «فرانس 3»، هو آخر ما اختاره الوسط الإعلامي الفرنسي لإظهار دعمه للصحافيين إيرفي غيسكيير وستيفان تابوني، مراسلي قناة «فرانس 3» المحتجزين في أفغانستان مع 3 من مرافقيهم منذ ديسمبر (كانون الأول) 2009.

وقد كان زملاء الصحافيين وذووهم ومعارفهم قد شرعوا منذ مدة في حملة مكثفة للمطالبة بإطراق سراحهما، بدأت بتشكيل لجنة دعم خاصة تتابع عن كثب حيثيات قضية الاختطاف وتنشر على موقعها «ليبيري لي» (أفرجوا عنهم) شهادات تعاطف ومساندة من شخصيات سياسية وفنية معروفة، وتنظيم عدة مظاهرات وتجمعات دعم ومساندة. كما عمدت وسائل الإعلام الفرنسية أيضا لتقليد جديد يتمثل في بث صور الصحافيين إيرفي غيسكيير وستيفان تابوني مع نهاية كل نشرة إخبارية للتذكير بوضعهما والدعوة للإفراج عنهما.

والملاحظ أن التعبئة التي يشهدها الوسط الإعلامي حول قضية الصحافيين اللذين اختطفا في مرتفعات «كابيزكا» الأفغانية منذ 9 أشهر قد جاءت بعد فترة صمت دامت أكثر من ثلاثة أشهر كانت إدارة قناة «فرانس 3» قد التزمت بها بناء على توصيات «الكي دورسيه» (وزارة الخارجية) وعائلات الرهائن، حيث تم التكتم على هوية الفرنسيين، إلى أن نشر لهما تسجيل مصور على شبكة الإنترنت.

وقد كانت مسألة تخصيص تغطية إعلامية واسعة لعمليات الخطف قد قسمت الوسط الإعلامي الفرنسي بين مؤيد ومعارض، حيث ظهر من يرى أن التعبئة المكثفة قد تنقلب سلبا على أصحابها، فلا الحفلات ولا التجمعات ولا التوقيع على العرائض أو تعليق اليافطات يجدي بأي نفع في مثل هذه القضايا التي لا تحل في شوارع باريس ولا داخل قاعات العرض بل في كواليس وزارة الدفاع ومصالح المخابرات وبين المفاوضين والخاطفين الموجودين على بعد أميال.

بل إن تخصيص مساحات واسعة لحوادث اختطاف الصحافيين، حسب بعض الآراء، قد يعرض حياة المراسلين للخطر، لأنه يسهم في رفع سعر فديتهم في «سوق الرهائن» لمستويات كبيرة. كما أن الإسهاب في التعليق على حوادث الاختطاف لا يخدم إلا مصالح الإرهابيين الذين يستفيدون بدعاية كبيرة.

ويقول «جان شارل مركياني»، مسؤول المخابرات السابق «أتذكر كيف أن فضول الصحافيين قد أعاق مهمتي كمفاوض في قضية اختطاف دبلوماسيين وصحافي في لبنان سنة 1988، فبعد كل تغطية إعلامية كانت مطالب الخاطفين ترتفع أكثر حتى وصل مبلغ الفدية إلى أكثر من ستة ملايين دولار، ناهيك عن الثمن السياسي الذي دفعناه والذي تمثل في تطبيع علاقاتها مع طهران في وقت قياسي».

أما المعنيون بهذه القضية أنفسهم، وهم الصحافيون، فمعظمهم يرى أن تعبئة الرأي العام تبقى أساسا لحماية حياة الرهينة، وهو أمر موجه أولا للسياسيين لإجبارهم على فتح المفاوضات مع الخاطفين والوصول لحلول سريعة، فالخاطفون أصبحوا في غنى عن الإعلام بعد ظهور الإنترنت الذي يستعملونه بمهارة لبث شرائط رهائنهم وهم يعلنون عن قائمة المطالب.

لكن التعبئة تبقى مهمة للرفع من معنويات الرهائن وإشعارهم بأن ذويهم ومسؤوليهم لم يتخلوا عنهم في محنتهم «أن تشعر بأن العالم كله معك في مثل هذه الأوقات الصعبة شيء أساسي في الأيام الأولى.. فالخاطفون الذين يطّلعون على الإنترت والقنوات الفضائية سيفعلون كل شيء للحفاظ على حياتك لأنهم واعون بأهمية ما يملكونه».. إنه رأي مراسل صحيفة «لوفيغارو» جورج ملبرونو الذي كان رهينة مع زميله كريستيان شينو لدى جماعة عراقية متطرفة لمدة 124 يوما سنة 2004.

وهو يتذكر كيف أن تعبئة الرأي العام وتعاطف مسلمي فرنسا تحديدا مع قضيتهم قد أثرا على الخاطفين. ويضيف جورج ملبرونو «لقد كان حظنا أحسن من حظ الصحافي الإيطالي انزو بلدوني الذي فضلت نفس الجماعة إعدامه لأنها اعتبرت أن حكومة سيلفيو برلسكوني لم تعر قضية اختطاف مواطنها الصحافي اهتماما كبيرا». أما الصحافي والكاتب جون بول كوفمان، الذي اختطف في لبنان بين سنة 1985 و1988، فهو يعترف بأن التعبئة الإعلامية تخدم أيضا مصالح الخاطفين، لكنها في نفس الوقت خطوة لا مفر منها، فرهينة من دون دعم هو رهينة من دون أي قيمة وبالتالي فهو في خطر.. ولم نر قبل اليوم أحدا يعدم بسبب قوة التعبئة التي تحيط بقضيته.

الرأي نفسه أكدته لنا «بتريسيا فيليبير»، صحافية وعضو في لجنة دعم الصحافيين إيرفي وستيفان، في مكالمة هاتفية لـ«الشرق الأوسط»: «حتى وإن كنا لا نملك اليوم أي صدى لتحركاتنا، فإننا قررنا مضاعفة الجهود والاستمرار في بعث رسائل الدعم عبر أثير الإذاعات الأفغانية باللغات المحلية، ومن خلال بطاقات توزع من طرف شبكة مراسلي (صحافيين بلا حدود)، فمن يدري قد تصلهم إحدى هذه الرسائل لتبعث الأمل في قلوبهم من جديد».

لكن بعيدا عن هذا الجدل تبقى ظاهرة اختطاف الصحافيين في ارتفاع مستمر. فقد أعلنت منظمة «مراسلون بلا حدود» في تقرير أخير نشر على موقعها على شبكة الإنترنت عن وجود أكثر من 250 مصورا ومراسلا خطفوا في مناطق متفرقة من العالم منذ سنة 1999 خاصة في أفغانستان والعراق وباكستان وغزة والفلبين وسريلانكا، ثلثهم أعدم ويعتقد أن العدد الحقيقي هو أكبر من ذالك بكثير على اعتبار أن كثيرا من عائلات الرهائن يفضلون التكتم على حوادث الاختطاف. وقد أصبح الموضوع مصدر أرق للسياسيين الذين يواجهون نتيجة هذه الحوادث ضغوطات من شتى الجهات لدرجة جعلت بعضهم يفكر في معاقبة المراسلين الذين يجازفون في مناطق خطيرة من دون حراسة وحملهم على تحمل عواقب قلة حذرهم.. وهو ما تم فعلا في فرنسا التي صادق فيها البرلمان في يوليو (تموز) الماضي على قانون يجبر الرهائن السابقين على تعويض الدولة جزءا من مصاريف عمليات الإفراج عنهم. وقد كانت وزارة الخارجية الفرنسية قد قيمت تكاليف عملياتها الخارجية هذه السنة بنحو 870 مليون يورو.

وقد كان أحد المسؤولين السامين في وزارة الدفاع الفرنسية، وهو الجنرال «جان لوي جورجولان»، قد فجر القضية قبلها بأسابيع، حين قدم أمام حشد من الصحافيين فاتورة 10 ملايين يورو قال إنها تكلفة عمليات البحث عن مراسلي «فرانس 3» بعد ثلاثة أشهر فقط من اختطافهما، طالبا من الصحافيين توخي الحذر والالتزام بتعليمات الجيش في حالة التنقل لمناطق غير آمنة، لأن البلد الذي يعيش أزمة اقتصادية في غنى عن مصاريف إضافية.

وإن كانت هذه الإجراءات قد قوبلت بنقد شديد فإن منظمة «مراسلون بلا حدود» قد فضلت أمام استفحال هذه الظاهرة توجيه النصح والتوعية للمراسلين الذين يعملون في مثل هذه المناطق الخطيرة. حيث خصصت على موقعها بابا يهتم بإجراءات السلامة والأمن، فنراها مثلا تنصح المراسلين الذين يشعرون بوجودهم في وضعية حرجة بضرورة الاتصال برقم مجاني خاص من أي وكالة لـ«الأميركان إكسبرس» للحصول على نصائح ومساعدة مسؤولي المنظمة، الذين يقومون بدورهم بإعلام السلطات المحلية والقنصلية بمكان وجودهم إذا استلزم الأمر.

المنظمة تعلم المراسلين أيضا أن بإمكانهم الاستفادة مجانا بأغراض وأدوات لحفظ سلامتهم كالقمصان الواقية، وخوذات الأمان، ومنارات الاستغاثة، وحقائب الإسعافات الأولية، وأجهزة أخرى تضعها وزارة الدفاع الفرنسية في تصرفهم مقابل صك ضمان تتراوح قيمته ما بين 250 و900 يورو.

منظمة «مراسلون بلا حدود» ذهبت إلى أبعد من ذلك، حيث شرعت منذ 1993 في تنظيم دورات تدريبية استفاد منها لغاية الآن أكثر من 300 صحافي ومصور أوروبي. الدورات التي تدور أحداثها في ثكنات عسكرية بإشراف قادة في الجيش، خبراء أسلحة وخبراء ألغام وأطباء تحت عنوان «الصحافيون في ساحات القتال» تتعمد وضع المراسلين في وضعيات أشبه بتلك التي يعيشونها في المناطق التي تشهد النزاعات المسلحة، وهذا لاختبار ردود أفعالهم وتمرينهم على ضبط النفس والخروج من الوضعيات الخطيرة بسلام، من دون نسيان أدق التفاصيل، كتنبيههم إلى ضرورة التقليل من تنقلاتهم، والتزام اللباقة عند نقاط التفتيش وتفادي البقاء من دون حراسة.

الصحافيون الذين استفادوا من هذه الدورات يؤكدون أنهم أصبحوا بعد هذه التجربة أكثر وعيا بالأخطار التي قد تعترض طريقهم.. يقول فرانسوا كزافيي مناج، من قناة «بي إف إم تي في» الإخبارية «لقد لمست عن قرب خطر الإصابة بالأسلحة النارية، وعشت وضعيات تفتيش وهجمات جعلتني أنتفض من الذعر لشدة قربها من الواقع، وهو ما جعل نظرتي للتغطيات الإعلامية تتغير، وإن كنت قد عشت وضعيات مماثلة في السابق إلا أنني سأكون أكثر حذرا في تنقلاتي بالمستقبل».

تفاصيل أكثر دقة جاء بها صحافي آخر من راديو وتلفزيون البرتغال (RTP) كان قد شارك في الدورة التدريبية لشهر فبراير (شباط) 2010 في شهادة نشرتها مجلة «في إس دي»: «اليوم التالي لوصولنا للثكنة، تم إيقاظنا مع الساعات الأولى للفجر، وبعد فطور الصباح عرضت علينا صور بشعة لكل أنواع الإصابات المحتملة في حالة حرب حتى كدنا نتقيأ ما أكلناه، تلا ذلك درس تفصيلي عن الأسلحة النارية وكيفية استعمالها. واليوم الثاني كان أكثر إثارة، حيث تم اصطحابنا إلى ما يشبه ساحة للقتال مع كتيبة للجيش، وفور وصولنا تلقينا تعليمات القائد بالاحتماء في حالة الهجوم. دوي الرصاص والقنابل فاجأني لدرجة أنني لازمت أحد الجنود وكأني طفل يحتمي بأمه من دون أن أعي أين كانت تأخذني رجلاي. وأكثر منه تدريب نقاط التفتيش الذي يجرب فيه الجنود صلابة أعصابنا، ولن أنسى مشهد زميلي الصحافي وهو يخر بالبكاء بعد تعرضه لضغط نفسي شديد رغم علمه بأنه مجرد تدريب».