رشيد بوشارب لـ «الشرق الأوسط»: المغاربة حرروا فرنسا مثل الأميركيين تماما

بعد عرض «خارج عن القانون» في «مهرجان الدوحة السينمائي»

مشهد من فيلم «خارج عن القانون»
TT

يرفض رشيد بوشارب بشده اعتبار فيلمه «خارج عن القانون»، الذي أثار ضجيجا كبيرا في فرنسا، ومظاهرات تطالب بمنع عرضه، عملا فنيا ينطوي على نوايا ثأرية. وعلى الرغم من أن الفيلم يصور الثورة الجزائرية منذ مجزرة سطيف عام 1945 التي راح ضحيتها 45 ألف شهيد إلى الاستقلال، ويعرض مشاهد قاسية جدا وعنيفة لمجازر دموية متتابعة ارتكبتها فرنسا بحق الجزائريين، فإن بوشارب يرى في الفيلم المرشح لجائزة الأوسكار المقبلة، عن فئة «أفضل فيلم أجنبي» مجرد محاولة لسرد التاريخ وفهم الماضي. ويقول بوشارب لـ«الشرق الأوسط» بعد عرض فيلمه في الليلة الافتتاحية لـ«مهرجان الدوحة السينمائي»: «كل ما أردت قوله هو أن الماضي كان قاسيا وعنيفا على آلاف الناس، فقد تواصل القتل في مجزرة سطيف التي يبدأ بها الفيلم، في الشوارع وداخل المنازل الآمنة دون تمييز بين كبير أو صغير مدة وصلت إلى 4 أو 5 أسابيع».

الفيلم مصور بتقنيات عالية، وبمهارة رفيعة، له وقع قاس على المتفرج، بحيث لا يترك فسحات أو انفراجات تسمح بالتقاط الأنفاس، اتهمه المحتجون الفرنسيون بأنه زور التاريخ وأساء لبلادهم. بوشارب يؤكد أنه لم يكن يتوقع على الإطلاق ردة الفعل هذه، ويضيف: «لم أكن أتصور أنه بعد خمسين سنة على فيلم (معركة الجزائر) الذي منع حينها لا يزال هناك من يتلبسهم الحنين إلى تلك المرحلة، وهم في غالبيتهم من كبار السن. لكن فرنسا بلد ديمقراطي. بدليل أن الفيلم لم يمنع وشاهده مئات آلاف المتفرجين، وحظي بإقبال كبير».

هذه ليست المرة الأولى التي تثير فيها أفلام هذا المخرج الموهوب الذي نال جوائز عالمية كثيرة غبارا كثيرا، ففيلمه «أنديجن» أو «بلديون» الشهير الذي صدر عام 2006 عن قدامى المحاربين الآتين من المستعمرات، وبينهم مغاربة وجزائريون، أهدرت حقوقهم ولم يعترف بجميلهم، دفع رئيس الجمهورية الفرنسي آنذاك، جاك شيراك إلى إعادة النظر في المكافآت التي تصرف لهم، والتي تميزهم عن فرنسي الأصل. وبالتالي فاستعادة التاريخ لا تعني بعدا عن الحاضر وإنما إعادة قراءة له. أمر يوافقه بوشارب، مضيفا: «حين يتم الحديث عن الحرب العالمية الثانية التي خاضتها فرنسا، لا يذكر أحد أن أهل المغرب العربي، وأفارقة معهم شاركوا في تحرير فرنسا، وأنهم دفعوا دماءهم في سبيل هذا التحرير. التذكير بهذا التاريخ يساعد على فهم مشروعية تواجد هؤلاء في فرنسا اليوم. هم ليسوا هناك بلا سبب. ما لا يعرفه الناس، أنه مقابل 500 ألف جندي أميركي شاركوا في تحرير فرنسا كان هناك 500 ألف آخرون جاءت بهم فرنسا من مستعمراتها بين عام 1940 و1943 من بلاد المغرب وأفريقيا، ليشاركوا في الحرب. من يعرف اليوم أن عدد هؤلاء كان يناهز عدد الأميركيين الذين قاتلوا من أجل فرنسا؟ لا أحد يعرف هذا». من هنا يعتبر بوشارب أن فيلمه «خارج عن القانون» يختلف بشكل كبير عن كل الأفلام التي صورت عن الثورة الجزائرية، شارحا: «ثمة أفلام كثيرة عالجت التاريخ الكولونيالي لفرنسا، ومنها فيلما أنديجن، الذي أضاء على مشاركة المغاربة والسنغاليين والكونغوليين، وغيرهم من الأفارقة في الحرب من أجل فرنسا. وهناك أفلام كثيرة كانت محورها الثورة الجزائرية في الجزائر لكن (خارج عن القانون) هو الفيلم الوحيد الذي صور الثورة الجزائرية داخل فرنسا. وهذا هو ما كان مهما جدا بالنسبة لي». الفيلم تدور قصته حول 3 إخوة وأم شديدة الرقة والعنفوان. الإخوة الثلاثة يذهب كل منهم في طريق مختلف عن الآخر، ولا ينخرط في حرب التحرير إلا عبد القادر، فيما يذهب الثاني إلى حرب الهند الصينية مع الجيش الفرنسي، ويختار الثالث حياة أكثر سهولة، لكن قسوة الظروف، وشدة القمع الفرنسي، تجعل منهم في النهاية جميعهم مناضلين من أجل استقلال الجزائر. هذا الفيلم الذي يسلط الضوء أيضا على الخلافات بين الجزائريين أنفسهم وقدرتهم على القتل، يتفنن مخرجه في تصوير الوحشية الفرنسية في قمع الثوار الجزائريين، دون أن يوفر على متفرجه مشاهد سفك صعبة الاحتمال، في كثير من الأحيان. المخرج بوشارب، لا يرى في ذلك تصفية حساب مع دولة استعمرت وطنه الأم، بل على العكس، يرفض أن يكون قد صور فيلمه وهو يضمر أي نوايا سلبية، «أنا جزائري لكنني فرنسي أيضا، مولود في فرنسا، ومقيم فيها، تاريخي مرتبط كله بفرنسا. لذلك لا يمكن أن أكون ضد نفسي، أو أن أتحداها. أنا في سلام مع ذاتي. أعرف ما معنى أن يكون الشخص جزائريا، كما أعرف معنى أن يكون الإنسان فرنسيا. ليس عندي أي رغبة ثأرية على الإطلاق. ففرنسا هي أرض حرية، بدليل أنني صنعت فيلمي بتمويل جزائري - فرنسي مشترك. البلدان مولا فيلما واحدا أروي من خلاله مرحلة تاريخية حساسة للطرفين معا».

بعد فيلميه «بلديون» و«خارج عن القانون» يرى بوشارب أن عليه التوقف الآن عن التفكير بالمرحلة الكولونيالية. إنها استراحة المحارب على الأرجح: «أحضر لأفلام تدور في أجواء أخرى مختلفة تماما، إنها عوالم مغايرة تماما تلك التي أريد الآن أن أهتم بها». لكن هذا لا يعني أن رشيد بوشارب لن يعود إلى القضايا الجزائرية «أحتاج إلى أربع أو خمس سنوات، لأعاود التأمل والتفكير. ربما بعدها سيحين موعد فيلم جديد يكون موضوعه المهاجرين الجزائريين، لكن الكلام لا يزال مبكرا والأفكار لم تختمر».

رشيد بوشارب مخرج ذكي، عرف كيف يتدرج من مساعد مخرج تلفزيوني إلى صناعة أفلام عالمية بمقاييسها وشروطها، إضافة إلى أنه كاتب سيناريو موهوب، وغالبا ما يكتب أفلامه وحده أو بالشراكة مع أحد. لذلك فهو معني باجتذاب المتفرج أيا كانت جنسيته. هذا ما يشرحه لنا حين نسأله عن تركيزه المؤثر على دور أم في الفيلم بشخصيتها القوية وروحها الحانية، وقدرتها على مساندة أولادها في أحلك الظروف ولو كان قلبها يتفطر قهرا. «أردت أن أقدم صورة للأم التي قد تكون أما لأي منا. هي أم تعطي للفيلم بعده الإنساني الكبير، الذي يخرجه من محليته ويجعله موضع جذب ليس فقط للفرنسي والجزائري، وإنما للقطري والصيني والهندي».

الرغبة في إخراج العمل الفني من محيطه الضيق إنسانيا وجغرافيا ربما هي التي دفعت برشيد بوشارب لأن يوسع الدائرة التي تدور فيها أحداث فيلمه لتتجاوز الجزائر وفرنسا، وصولا إلى بروكسل والهند الصينية. فيلمه الذي عرض عربيا في تونس والجزائر ورام الله قبل أن يصل إلى قطر، يتوقع له المخرج حياة مديدة وانتشارا واسعا، فهو لا يزال حديث الصدور. «الفيلم سيشق طريقه وسيعرض في كل مكان»، على الرغم من أن أي دعوة عربية أخرى لم تصله حتى الآن، لكن «الموضوع يعني العرب بشكل وثيق». يقول بوشارب: «هذا فيلم استنهاضي بالنسبة للعرب. فالحكاية هي عن شعب عربي مستعمر قرر الثورة من أجل الحرية. وهو الشعب العربي الوحيد الذي حارب بهذه القوة والشراسة، ولفترة مديدة طوال الخمسينات والستينات ودفع دماء كثيرة، والأهم من ذلك كله، أن هذا النضال تكلل بالنصر. الجزائريون ربحوا استقلالهم وهذا يشعر أي متفرج عربي بالفخر والاعتزاز».