كائنات أرمان فرنانديز كبيرة وصادمة بموادها

كسر بها كل القوالب الفنية الموروثة من عصر النهضة

منحوتة الوقت المشغولة من عدد كبير من الساعات الكبيرة والصغيرة التي وهي تعبر عن إيقاع الحياة وقيمة الوقت في المدن الكبيرة كما تعبر عن ضياعه أيضا
TT

هل هو الانفجار، نعم، ربما، هو كذلك. أن ترى سيارة سباق صغيرة معلقة على جدار في متحف « بومبيدو» الباريسي، فذلك يعني الانفجار. انفجار المفاهيم الفنية التي تعني من ضمن ما تعنيه، وضع العقل على سكة خطرة، وضع الحواس أمام مأساة العالم، أو مأساة العقل. أو على أقل تقدير غضب الفنان وعقله واختلافه. المعرض الاستعادي للفنان الفرنسي لا يكتفي بعرض هذا العمل من أعمال أرمان. ثمة كرسي قديم وممزق ومشغول بطريقة وحشية وثمة العديد من الأعمال الصادمة في واقعيتها. هو إذن معرض استعادي لا يبغي فقط تكريم أرمان كواحد من الفنانين الذين شغلوا العالم بأسلوبهم. بل هو تكريم للأسلوب وللخيال وسياحة في عقل أرمان الذي رحل قبل خمس سنوات.

ولد بيار أرمان فرنانديز في نوفمبر (تشرين الثاني) 1928 في مدينة نيس الجنوبية. هو يجمع التأثيرات الإسبانية في شخصه وكذلك تجري في عروقه دماء الإسبان الثورية. وهو ما ورثه عن جده لأبيه الذي بنى ثروة كبيرة من تأسيس الشركات ومعامل النسيج في أليكانتي. لكنه تعرض لصدمة كبيرة في ثروته بعد أزمة عام 1929 وبقي له من تجارته الكثير.

أما أرمان فقد تربى في تلك الفترة، ما فصل بينه وبين الحرب الكونية الثانية عدة أعوام فقط. هنا، حيث تربى مع والدته مارغريت جاكيه، التي كانت مزارعة ولم توفق مع زواجها بأبيه الذي كان أحد أهم تجار التحف القديمة في نيس. فكان أن تفتحت عيناه على ثلاث مآسٍ في وقت واحد. مأساته العائلية بانفصال أبيه عن أمه ومأساة الفقر الذي حل بالعالم وأوروبا في ذلك الوقت. ومأساة الحرب الكونية الثانية وأهوالها. وهو أحب الرسم منذ نعومة أظافره فدرس في مدرسة الفنون الزخرفية في نيس ثم اتجه صوب باريس والتحق بمدرسة اللوفر. وأنهى رحلة حياته في نيويورك. ربما لأنها المدينة التي تأثر بها كثيرا، لضخامتها.

عرف عن أرمان اشتغاله على أسلوب مميز في الفن، فهو كسر كل القوالب الفنية التي ورثت عن عصر النهضة في التشكيل وعن الموروث النحتي الروماني والإغريقي. فعمل على منحوتات لا تشبه الذائقة الكلاسيكية من خلال استعماله لمواد لم تكن تستخدم في النحت من قبل مثل البلاستيك والأشياء المهملة التي حولها إلى أيقونات فنية غاية في الجمال. وقد ساهمت الحرب التي عاشها صغيرا في تشكل وعي مغاير عن مجايليه وحتى عن أسلافه. فقام باستخدام أدوات الحرب، القاتلة، كرموز في بنائية الإنسان المعاصر. محولا إياها، من أدوات قتل وتدمير إلى مجرد منحوتات صامتة رمزية لا تفعل شيئا سوى أنها وجدت للتعبير عن صمتها. على الأرجح، فإن المنحوتة الضخمة التي تزين وزارة الدفاع اللبنانية بالقرب من بيروت، والتي نفذها في عام 1995 تحت عنوان «روح السلام» وكانت هدية من الدولة الفرنسية إلى الدولة اللبنانية مباشرة بعد انتهاء الحرب بعدة سنوات. لخصت هذه المنحوتة الضخمة (تعتبر واحدة من أضخم منحوتات العالم) ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية الأليمة التي كان اللبنانيون وقودها اليومي طوال خمسة عشر عاما ناجزة. المنحوتة التي هي بناء إسمنتي حديدي ضخم، ينتصب بارتفاع 32 مترا وبوزن 6000 طن من الإسمنت المسلح والحديد، هي عبارة عن مجموعة من الدبابات وحاملات جند تخرج منها فوهات تتجه إلى الأعلى في إشارة إلى تمجيد أدوات الحرب للسلم واحترامه.

والحق أن أرمان لم يستهلك نفسه فقط، في قضايا الحرب والسلام. وإنما ذهب إلى أبعد من ذلك كله. فقد حول النشيد الفرنسي المارسييز، إلى بيانو لطخته الفراشي بألوان العلم الفرنسي الأبيض والأحمر والأزرق، في محاولته لخلق مواءمة ما بين الموسيقى والألوان أما العدد الكبير للفراشي التي تلتصق بالبيانو فما هي سوى أيادي الفرنسيين أجمعين التي ساهمت في خلق فرنسا حرة، أو فرنسا على ما هي عليه الآن. هذا هو الحب الذي أبداه هذا الفنان الفرنسي ذو الأصول الإسبانية للنشيد الفرنسي الذي يعبر عن روح الثقافة الفرنسية الحرة. وهو إلى ذلك ترك الكثير من المنحوتات في العاصمة الفرنسية أهمها المنحوتة التي تزين مدخل محطة سان لازار للقطارات في قلب باريس. فعلى مسافة ليست ببعيدة عن مبنى الأوبرا الشهير تقف منحوتة الوقت المشغولة من عدد كبير من الساعات الكبيرة والصغيرة التي وهي في مكانها تعبر عن إيقاع الحياة وقيمة الوقت في المدن الكبيرة كما تعبر عن ضياعه أيضا.

إن المعرض الاستعادي الذي تجري فعالياته في باريس اليوم. ليس مجرد دعوة لزيارة هذا الفنان في منحوتاته الغرائبية وعالمه الأغرب. وإنما، دعوة لتكريم فنان تألق رغم افتراقه عن قواعد الفن التي لا تزال سارية لغاية اليوم. وتمرد على كل القوالب الفنية التي عاشها القرن العشرين. وهو لذلك معرض مهم وممتع. فليس في أي معرض فني يمكننا رؤية سيارة سباق قديمة معلقة على الجدار.