إشكالية التربية المدرسية الحديثة في لبنان: لا للعقاب.. نعم للحرية

الأهل يتسلحون بها والمعلم يرى أنها تفقده هيبته

الأطفال في المدارس اللبنانية يتمتعون بالمزيد من الحرية على حساب الانضباط («الشرق الأوسط»)
TT

بين «سياسة العصا» التربوية التي تربت عليها أجيال الزمن الماضي و«سياسة الجزرة»، وما يتحكم بها من محاذير تعتمد عليها النظريات الحديثة ضد انتهاج المعلم خياري التوبيخ والعقاب، تقف المدرسة في لبنان أمام أزمة. فثمة من يرى أن منطق العقاب، بالذات، يؤثر سلبيا على نفسية التلميذ، غير أن المعلم يرى أن هذا الرأي «مثالي جدا» وبالتالي يصعب اعتماده، ولا سيما مع جيل اليوم «المنفتح والجريء» بل و«الوقح» في بعض الأحيان.

لكل من هؤلاء حجته في الدفاع عن وجهة نظره انطلاقا من معايشته لهذا الواقع.

رزمة «خطوط حمراء» تحدد المبادئ التربوية العامة التي لا يقبل وليد جابر بأن تتخطاها معلمة ولده (7 سنوات)، ويقول: «أعرف أن ابني ليس طفلا سهلا، لكنني لا أسمح للمعلمة أن توجه له أي توبيخ أو حتى ملاحظة ولا سيما أمام أصدقائه. عليها أن تقوم بدورها، وأن تبحث عن الوسائل الملائمة للسيطرة على الصف ومجاراة التلاميذ، والتعامل معهم بالأساليب المناسبة بعيدا عن التوبيخ والعنف أو الحزم... وكل وسائل العقاب التي من شأنها أن تؤثر على نفسية الطفل وتجعله يكره المدرسة». وفي حين يشير وليد إلى محاولته قدر الإمكان التعامل مع ابنه بعيدا عن وسائل العقاب والتوبيخ، فهو لا ينفي عجز زوجته عن السيطرة على هذا الواقع بالطريقة نفسها، فتضطر إلى اللجوء إلى العقاب والتوبيخ في أحيان كثيرة، وإن ليس في وجوده لأنه لا يقوى على تقبل الأمر.

في هذا الإطار، يعتبر الدكتور فوزي أيوب، الأستاذ في كلية التربية بالجامعة اللبنانية، أن «الديمقراطية الزائدة في الأساليب التربوية توازي الديكتاتورية الفائضة في طريقة التعامل مع التلاميذ». وفي حين يشدد على ضرورة تمتع الأستاذ بشخصية حازمة تدير «قواعد اللعبة» والسيطرة على الصف، يشير إلى أنه «في بعض الأحيان، تظل الديكتاتورية أفضل من التسيب والانفلات من عقال الأنظمة والقواعد، التي على التلميذ أن ينشأ عليها. الأمر الذي يضع الأستاذ أمام مهمة إدارة الصف كما يجب، وذلك لإرساء القواعد التربوية والأنظمة التي على الأطفال التقيد بها».

أما كارول مكي، وهي مدرسة في الصفوف الابتدائية في إحدى مدارس لبنان فترى أن «على التلميذ أن يعتاد على مبدأ الثواب والعقاب ليعرف الصح من الخطأ وليتعلم من هذا الخطأ». وتضيف مكي: «هناك اختلاف واضح بين تلاميذ الأمس وتلاميذ اليوم من جهة احترام المعلم. ومما لا شك فيه أننا لا نؤيد مبدأ العنف في التعامل مع التلاميذ، لكن الواقع يفرض أسسا مهمة يجب اعتمادها في أساليب التربية ترتكز على مبدأ الثواب والعقاب الذي يبقى في حدود معينة ومدروسة. لكن حتى هذه الأساليب باتت مرفوضة نهائيا من الأهل الذين يتسلحون بالتربية الحديثة لوضعها في خانة العنف. وهكذا، باتت إدارات المدارس التي صارت في معظمها تجارية تخاف من تقلص عدد تلاميذها، وتفرض عمليا على المعلم ألا يلجأ إلى أي وسيلة من الوسائل لردع التلميذ. وبالنتيجة فقد المعلم (هيبته) التربوية وبات مضطرا لتجاهل ما يرتكبه الولد من أخطاء.. بحجة الحرية في التربية وفي التعبير عن النفس.. لتكون النتيجة الفوضى العامة».

عودة إلى الدكتور أيوب، الذي يرى أنه «بشكل عام لا يزال الأهل الشرقيون يتقبلون بعض الحزم المعقول، لا سيما إذا كانوا واعين بسلوك ولدهم، أما أولئك الذي يحاولون تقليد الغرب في إعطاء الحرية المطلقة لأولادهم إلى درجة قد تصل إلى الوقاحة، في بعض الأحيان، فهم الذين يعترضون على هذه التربية». ويضيف: «هذه المثالية الزائدة لا تطبق إلا في جمهورية أفلاطون، أو إذا كان كل التلاميذ مثاليين من النواحي السلوكية والتربوية كافة، وهذا طبعا ليس موجودا في المطلق». ويتابع: «علينا أن نكون واقعيين في طريقة تعاملنا مع الأطفال. وعلى الأستاذ والأهل وإدارات المدارس، على حد سواء، أن يكونوا واعين تماما لهذا الواقع، والتصرف بما يتلاءم مع متطلبات الميول البشرية وتصرفاتها. وبالتالي، فكما أنه من الطبيعي ألا تنطبق صفة المثالية على جميع التلاميذ، فمن الطبيعي أيضا أن يتفاعل الأستاذ مع تصرفات التلميذ الخارجة عن الأنظمة ولا بد عندها أن يكون ثمة وسائل تربوية منطقية يلجأ إليها الأستاذ للتعامل مع هذا السلوك».

أيوب يشدد على ضرورة ابتعاد المعلم تماما عن العنف الجسدي واللفظي والنفسي، غير أنه يلفت إلى أن السياق الطبيعي للأساليب التربوية يجب أن يكون متدرجا من لفت نظر التلميذ مرات عدة إلى الخطأ الذي ارتكبه مرورا برفع الصوت وإعطاء الملاحظة بحدة وحزم أو اعتماد «التوبيخ الايجابي» الذي يشجع التلميذ على تغيير سلوكه كأن يقول له «أنت تلميذ مهذب ومجتهد لا يمكن أن يصدر عنك سلوك كهذا..»، وصولا إلى «التوبيخ السلبي». وقد يصل المعلم في نهاية المطاف إلى التهديد بإخراج التلميذ من الصف وحرمانه من بعض الأمور التي يحبها كتسليمه قيادة الصف أو المجموعة.. من دون تعدي هذا الأمر إلى حرمانه من الصفوف التي توضع في الخانة الترفيهية كالرياضة والمسرح والرسم والموسيقى. ومن جهة أخرى، يشدد أيوب على دور تربية الأهل في وضع هذه الخريطة التربوي في السياق الصحيح، «لأن التربية التي ترتكز على العدوانية أو الدلع المفرط في المنزل تنعكس سلبا على سلوك هذا التلميذ في الصف ويصل إلى درجة عصية على الضبط، الأمر الذي يضع الأهل في موقع المسؤولية الأساسية إلى جانب المعلم والإدارة. وفي بعض الأحيان، إذا وصل المعلم إلى حائط مسدود يجب تدخل المرشد التربوي النفسي لوضع الأمور في نصابها الصحيح».