قصة هجوم مومباي بالتفاصيل.. من بداية سعيدة إلى نهاية مأساوية

قال قائد المجموعة لرهينة مكسيكية كانت تبكي: وفري طاقتك للأيام السعيدة

رف من الحمام فوق قصر «تاج محل» الذي تتصاعد منه غيمة كثيفة من الدخان الأسود (أ.ب)
TT

في ليلة من ليالي نوفمبر (تشرين الثاني) منذ عامين، انتهى حاخام أميركي شاب وزوجته الحامل من تناول طعام العشاء في منزلهما بمدينة مومباي الهندية العملاقة. وكان جافرييل وريفكا هولتزبيرغ قد قدما إلى الهند في مهمة دينية، وأسسا أول مركز لمنظمة تشاباد لوبافيتش، وهي منظمة يهودية أرثوذكسية، في برج مكون من ستة طوابق يطل على إحدى المناطق الفقيرة. وكان ضيوف هولتزبيرغ في هذه الأمسية حاخامين أميركيين وجدة إسرائيلية وسائحة مكسيكية.

وعلى بعد مئات الأميال في باكستان، كان هناك قائد إرهابي يدعى ساجد مير يستعد لمهمة دينية من نوع مختلف. وكان مير قد قضى عامين مستخدما عميلا سريا باكستانيا أميركيا يدعى ديفيد كولمان هيدلي من أجل إجراء عمليات استطلاع دقيقة جدا في مومباي، حسبما ذكر محققون ووثائق محكمة. واختار مير أهدافا بارزة، وعلى الرغم من أنه لم يبدُ خيارا بارزا، فقد ضمن وقوع ضحايا يهود وأميركيين.

وفي 26 نوفمبر 2008، جلس مير بين قيادات جماعات مسلحة في بيت آمن داخل باكستان وهم يتابعون فريق الهجوم مع اقتراب زورقهم من الواجهة البحرية لمدينة مومباي.

وجعلت جماعة «عسكر طيبة» الإرهابية مير مديرا لمشروع كبرى هجماتها على الإطلاق، في إنجاز يتوج حياته المهنية كمجاهد.

وانقسم المسلحون الـ10 إلى 5 فرق. وقاد مير، بصوته الهادئ والرصين، المذبحة عبر الهاتف؛ حيث كان ينقل توجيهات مفصلة إلى مقاتليه. وفي نحو الساعة 10:25 مساء، اقتحم المسلحون بيت تشاباد، وأطلقوا النار على هولتزبيرغ وزوجته والحاخامات، وأخذوا الجدة الإسرائيلية والسائحة المكسيكية كرهائن واحتموا بأنفسهم في طابق علوي.

وأمر مير رجاله بالمساومة على مقايضة الرهائن بمسلح تم اعتقاله. وتحدث مير مباشرة مع السائحة المكسيكية نورما رابينوفيتش، 50 عاما، التي كانت تستعد للسفر إلى إسرائيل من أجل اللحاق بأبنائها البالغين.

وهدأ مير من روع المرأة التي كانت تبكي بلغة إنجليزية سلسة ولكن بلكنة باكستانية.

وقال مير للمرأة خلال المكالمة التي اعترضتها أجهزة المخابرات الهندية: «وفري طاقتك للأيام السعيدة. وإذا اتصلوا الآن، ربما تحتفلين بقضاء يوم السبت مع أسرتك».

ولكن عملية مقايضة المسلح المعتقل فشلت، وأمر مير أحد مسلحيه بـ«التخلص» من رابينوفيتش.

وقال: «أوقفها على هذا الجانب من بابك. وأطلق النار عليها بحيث تخترق الرصاصة رأسها من الجانب الأيمن وتخرج من الجانب الأيسر.. افعل ذلك. أنا أنصت... افعله باسم الله».

وخلف حصار مومباي، الذي استمر 3 أيام، 166 قتيلا و308 جرحى. وكان من بين القتلى 26 أجنبيا، بينهم 6 أميركيين. وأججت هذه الهجمات التوتر القائم بين باكستان والهند في الوقت الذي كانت الجارتان النوويتان تحاولان تحسين علاقاتهما. وعقَّدت أصداء هذا الحادث من الحرب الأميركية على قوى التشدد الإسلامي في جنوب آسيا، وأقحمت جماعة «عسكر طيبة» في دائرة الضوء العالمي.

وبعد مرور عامين على هذه الهجمات، أصبح مير وضحاياه في لب مأزق أمن قوي موجع يواجه الإدارة الأميركية. والسؤال الذي يطرح نفسه، ببساطة، هو ما إذا كانت المصالح الأكبر للولايات المتحدة في الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع باكستان سوف تسمح لمير ومتهمين آخرين بتجنب التعرض للعقاب في واحدة من أكثر الهجمات الإرهابية بشاعة في التاريخ الحديث.

وكما أوضحت زيارة الرئيس أوباما الأخيرة إلى الهند، ما زالت هجمات مومباي قضية محورية وحساسة في العلاقات بين الولايات المتحدة والهند وباكستان. وعلى الرغم من الحساسيات الدبلوماسية، يقول مسؤولون في الإدارة الأميركية إنهم يتعقبون المسؤولين عن هذه الهجمات.

وقال مسؤول في إدارة مكافحة الإرهاب الأميركية، تحدث شريطة عدم ذكر اسمه بسبب الملاحقات القضائية القائمة: «الحكومة الأميركية مصممة تماما على رؤية العدالة تتحقق في هذه القضية. وهذا الأمر يستغرق وقتا طويلا في بعض الأحيان».

كانت بروبابليكا قد تابعت التحقيقات في الهجمات والقضايا السابقة التي توثق صعود جماعة «عسكر طيبة». ويعتمد هذا التقرير على مقابلات مع أكثر من 20 شخصا من مسؤولي تنفيذ القانون والاستخبارات ومسؤولين دبلوماسيين في الولايات المتحدة والهند وباكستان وفرنسا وبريطانيا وأستراليا وإسرائيل، من بينهم محققون بارزون. وأجرت بروبابليكا أيضا مقابلات مع أصدقاء وأقارب متهمين وضحايا لم يناقشوا القضية مع صحافيين، واطلعت المؤسسة على ملفات قضايا أميركية وداخل دول أخرى لم يتم الكشف عن بعضها من قبل.

وترسم هذه الوثائق والمقابلات أكمل صورة إلى الآن للمتهم الغامض مير، الذي تظهر محاكماته العالمية تطور جماعة «عسكر طيبة». وقد ظهر اسم مير في تحقيقات أجريت بـ4 قارات، وتصل شبكته إلى ضواحي ولاية فيرجينيا. وتظهر لمحات عابرة له في ملفات قضايا واتصالات تمت مراقبتها وتسجيلها. وكانت محكمة فرنسية قد أدانته غيابيا عام 2007. ولكنه لا يزال حرا وخطيرا، حسبما صرح مسؤولون أميركيون وهنود.

ويقود تحقيق بروبابليكا إلى كشف آخر مزعج، هو أنه على الرغم من أصوات القلق المنعزلة، كان مجتمع الاستخبارات الأميركي بطيئا جدا في تركيزه على جماعة «عسكر طيبة» والكشف عن مدى تصميمها على ضرب أهداف غربية. ويعترف بعض المسؤولين بأن وكالات مكافحة الإرهاب كانت قد أدركت أبعاد التهديد الذي تمثله هذه الجماعة فقط بعد هجمات مومباي.

وقد ركز تحقيق مكتب التحقيق الفيدرالي بخصوص حوادث قتل الأميركيين على 6 متهمين من العقول المدبرة لا يزالون طلقاء حتى الآن، وهم: مير، وقيادات بارزة في جماعة «عسكر طيبة» ورجل يعتقد أنه رائد في الاستخبارات الداخلية الباكستانية. ويقول مسؤولون أميركيون إن واشنطن حثت إسلام آباد وضغطت عليها للقبض على المتهمين.

وقال المسؤول الأميركي البارز في مجال مكافحة الإرهاب: «نفرض ضغوطا مستمرة على الباكستانيين للتعامل مع جماعة (عسكر طيبة) والقيام بذلك على أعلى المستويات. وكانت رسالتنا لا يعوزها الوضوح».

لكن صرح مسؤولون أميركيون بأن هذا الرد لا يكفي؛ حيث توجد معوقات أمام الجهود المبذولة من أجل جلب العقول المدبرة للعدالة بموجب القانون الأميركي، الذي يجرم الهجمات الإرهابية ضد أميركيين خارج الولايات المتحدة. ويمكن أن تفضي ملاحقة قضائية أميركية إلى تورط قادة عسكريين باكستانيين، على الأقل، سمحوا لـ«عسكر طيبة» بالعمل بحرية. ويمكن للضغوط الأميركية على باكستان بهدف دفعها إلى مواجهة الجيش و«عسكر طيبة» أن تقوض جهود مكافحة الإرهاب.

قال مسؤول أميركي رفيع المستوى بهيئات تطبيق القانون: «إنها عملية توازن، يمكننا حتى الآن أن نضغط فقط. والأمر سياسي بدرجة كبيرة. إن ساجد مير أقوى من أن يلاحقوه حاليا،، كما أنه على علاقة بشخصيات نافذة. نريد من الباكستانيين أن يلاحقوا حركة طالبان وتنظيم القاعدة».

وقال مسؤولون باكستانيون إنهم ليس لديهم أي معلومات عن مير. ونفوا المزاعم بدعم أجهزة الاستخبارات الباكستانية لـ«عسكر طيبة».

وقال مسؤول باكستاني رفيع المستوى، رفض الكشف عن هويته لحساسية القضية: «المزاعم بشأن عمل قيادات من الاستخبارات الباكستانية سرا مع المسلحين وراءها نوايا سيئة». وأضاف أن الاستخبارات الباكستانية «ما زالت تتمتع بشفافية تامة وتخضع لسيطرة الحكومة المدنية الكاملة.. ومما لا شك فيه أن الحكومة تعتقد أن كل المسلحين أعداء للدولة».

منذ عام اتهمت باكستان القائد العسكري لـ«عسكر طيبة» و6 مشتبهين أقل مستوى بالتورط في تفجيرات مومباي، لكن المحاكمات توقفت بسبب تعقيدات قانونية والنزاع مع الهند، مما أثار مخاوف مسؤولين أميركيين وباكستانيين من انهيار الملاحقة القضائية في ظل منظومة قضائي نادرا ما يدين متطرفين متهمين.

وكشفت التحقيقات الأميركية عن 320 هدفا محتملا خارج الولايات المتحدة، 20 منها في الهند فقط، ومن ضمن هذه الأهداف: سفارات لأميركا وبريطانيا والهند، إضافة إلى مبانٍ حكومية وأماكن سياحية ومراكز مالية عالمية، بحسب ما أفاد به مسؤولون.

قال تشارلز فاديز، الرئيس المتقاعد لعمليات مكافحة الإرهاب في جنوب آسيا وبقاع أخرى ساخنة بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية: «كان يجب أن يكون هناك اعتراف برغبة (عسكر طيبة) في مهاجمة الغرب وقدرته على القيام بذلك، وبأننا كنا بحاجة إلى التصرف سريعا مع هذه الجماعة». وأضاف: «كان من الخطأ تجاهلها باعتبارها تهديدا للهند فقط».

ويجسد مير اليوم خطر «عسكر طيبة» النامي، فعلاقات الجماعة القديمة مع قوات الأمن جعلتها أكثر احترافا وأكثر خطورة من تنظيم القاعدة.

وقال جين لويس بروغيير، قاض فرنسي حقق في قضية لها علاقة بمير: «(عسكر طيبة) أداة من أدوات الاستخبارات الداخلية الباكستانية، كما أنها حليفة لتنظيم القاعدة الذي يشارك في الجهاد العالمي. وباكستان اليوم قلب التهديد الإرهابي، وربما فات أوان اتخاذ أي إجراء حيال ذلك».

وعمل ساجد في العالم السري الغامض للجواسيس والجنود والإرهابيين أكثر من 10 سنوات.

وتوضح مذكرة التوقيف التي أصدرها «الإنتربول» الشهر الماضي بحق ساجد ارتباكا بشأن حقائق أساسية مرتبطة به؛ حيث تشير مذكرة التوقيف الهندية إليه بساجد ماجد وليس مير وتاريخ ميلاده المدون بها 1 يناير (كانون الثاني) 1978، مما يعني أن عمره 32 عاما. ويعتقد أغلب المحققين أنه في منتصف أو أواخر الثلاثينات وما زالوا يطلقون عليه اسم ساجد مير ويقولون إن اسم ماجد قد يكون اسمه الحقيقي أو أحد أسمائه المستعارة.

وُلد مير في لاهور، ثانية كبريات مدن باكستان والعاصمة الثقافية لها. قد تكون أسرته امتلكت مصنعا بحسب شهادة أُدلي بها أمام المحكمة.

كان مير في مرحلة المراهقة عندما أسس أستاذ جامعي، يدعى حافظ سعيد «عسكر طيبة» في أواخر الثمانينات بالتعاون مع عبد الله عزام، وهو إسلامي فلسطيني اشتهر أيضا بكونه معلم أسامة بن لادن وساعده في تأسيس التنظيم الذي أدى إلى ظهور «القاعدة».

اشتركت «عسكر طيبة» في الحرب ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، التي دعمتها الولايات المتحدة وباكستان، وسرعان ما أدخله استراتيجيون باكستانيون في حرب بالوكالة ضد الهند في إقليم كشمير، المتنازع عليه بين الهند وباكستان. حصلت الجماعة على دعم كبير بفضل المزيج الذي يتكون من التطرف والنزعة القومية والمجموعة المتنوعة من المدارس والمستشفيات والبرامج الاجتماعية، خاصة في البنجاب، مسقط رأس مير. أطلق الهنود على «عسكر طيبة» لقب «حكومة المجاهدين».

انضم مير إلى «عسكر طيبة» تقريبا عندما كان في السادسة عشرة من العمر بحسب ما أفاد به المحققون. يقول بعض مسؤولي مكافحة الإرهاب الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين: إن مير قضى بعض الوقت في الجيش، إلا أن هذا الأمر يظل غامضا.

والتحق مير بجناح العمليات الدولية في «عسكر طيبة»، الذي تبنى الجهاد العالمي في تسعينات القرن الماضي. شارك مسلحو «عسكر طيبة» في الحروب التي اندلعت في أفغانستان والبوسنة والشيشان وقاموا بإنشاء شبكة تجنيد وتمويل عالمية. أظهرت هذه الأنشطة والدعاية الإعلامية التي تقوم بها «عسكر طيبة» ضد الأميركيين واليهود موهبة كبيرة في التعاون الدولي بحسب شهادة أمام الكونغرس الأميركي وما أفاد به مسؤولون باكستانيون وغربيون.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»