سياسة «لعم».. لم تعد مقبولة في واشنطن

TT

عندما يهب اليمين الإسرائيلي ضد رئيس وزرائه القوي، بنيامين نتنياهو، بهذا الشكل المفزع، فذلك يشير إلى أن شيئا ما جديا بدأ يحصل على طاولة المفاوضات.

وما فعله نتنياهو، ومحاولته حشد التأييد للمقترحات الأميركية ومواجهة اليمين المتعصب، لم يصل بعد إلى الدرجة التي يتمناها العرب عموما والفلسطينيون بشكل خاص. لكنه يكفي لزعزعة الأجندة اليمينية المتطرفة، التي كان وضعها نتنياهو نفسه في معركة الانتخابات الأخيرة. فاليمين يحارب اليوم في اتجاهين؛ الضغوط الأميركية.. ومحاولة تغيير الوضع الذي يجد نفسه فيه حاليا كمقاول ثانوي ينفذ سياسة وبرنامج اليسار الإسرائيلي الذي هزمه عدة مرات في العقد الأخير.

وينبغي أن يكون واضحا أن نتنياهو ليس مرشحا بعد لجائزة نوبل للسلام؛ فهو لم يحسم أمره بعد بشكل نهائي ولم يتخل عن سياسته التوسعية ولا الاستيطانية. لكنه وصل إلى قناعة بأن حربه الكبرى، التي أدارها ولا يزال ضد القيادة الفلسطينية، التي حاول فيها إظهار الرئيس محمود عباس «رفضيا»، قد فشلت. فالرئيس عباس، وعلى الرغم مما يواجهه من معارضة داخلية في فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية وفي العالم العربي، تمكن من إقناع الغرب كله والأميركيين بشكل خاص بأنه جاد في التوجه إلى المفاوضات المباشرة من أجل التوصل إلى تسوية دائمة. وحكومته برئاسة سلام فياض نجحت في إقناع الجميع بأن الفلسطينيين، وعلى الرغم من الانقلاب في غزة والتمزق الفلسطيني، قادرون على إدارة دولة، وهم يستعدون وبشفافية عالية لبناء مؤسسات هذه الدولة من الآن.

فشل نتنياهو في رهانه على الانتخابات الداخلية الأميركية. وعلى الرغم من غزله مع الحزب الجمهوري المعارض قبل الانتخابات النصفية قبل أسبوعين، لم يستطع ليّ ذراع الرئيس باراك أوباما؛ فالغالبية الساحقة من يهود الولايات المتحدة (66 في المائة) صوتوا لمرشحين من الحزب الديمقراطي. وقادة اليهود الأميركيين نصحوه بالامتناع عن الصدام مع إدارة أوباما.

إزاء ذلك، ومقابل الإغراءات الكثيرة التي قدمها أوباما له، خصوصا هدية الطائرات الحديثة العشرين، وجد نتنياهو نفسه في طريق لا رجعة فيه للموافقة على تجميد البناء الاستيطاني مرة أخرى. ومع أن هذا التجميد سيكون مرحليا (3 شهور)، ومحدودا (رسميا لا يشمل القدس الشرقية المحتلة)، ولن يتكرر، فإنه يسجل في تاريخ إسرائيل كسابقة ثانية. السابقة الأولى عندما تم تجميد البناء لعشرة شهور انتهت في سبتمبر (أيلول) الماضي. وخطورتها بالنسبة لليمين الإسرائيلي أنها تتم في زمن حكومة يمينية. فلم يسبق أن أقدمت حكومة إسرائيلية سابقة، ولا حتى في زمن رابين في بداية تطبيق اتفاقيات أوسلو، على اشتراط تجميد الاستيطان لبدء المفاوضات. وإذا قبل اليمين على مضض هذا الشرط الأميركي - الفلسطيني - العربي في الماضي، فإنهم لا يبلعونه اليوم ويشعرون أنه كالعظمة في الحلق. وإذا كانت بعض أطراف اليمين قد أثارت الضجة ضد التجميد في الماضي على سبيل تقوية نتنياهو أمام الأميركيين وسائر دول الغرب، فإن التجميد هذه المرة يُرى على أنه رضوخ مهين للإدارة الأميركية ودوس بالأقدام على برنامجهم السياسي وآيديولوجيتهم الصهيونية المتطرفة.

ولكن نتنياهو يدرك أن هناك حدودا ضيقة جدا للإفلات من قبضة الولايات المتحدة؛ فعندما تقرر هذه شيئا، ينبغي أيضا على إسرائيل أن تقبل به، وإلا فهي تعرض نفسها للرد. ونتنياهو بالذات سبق أن جرب التمرد على الأميركيين خلال دورة حكمه الأولى (1996 - 1999)، وكانت النتيجة أنه اضطر إلى تقديم موعد الانتخابات العامة وسقط. لذلك، فإن ما يفعله هو أمران: المماطلة وكسب الوقت على أمل أن يقع الرئيس الفلسطيني في حبائله، ويحقق رغبة نتنياهو في القول لا. والأمر الثاني هو أنه يحاول ابتزاز ثمن باهظ من الإدارة الأميركية الحالية مقابل تجميد البناء.

الفلسطينيون من جهتهم، الذين أدركوا لعبة نتنياهو فلم يقعوا في حبائله بعد، يطلقون اليوم حملة لرفض الصفقة الجديدة. ولكن هذا الرفض ليس نهائيا. فهم أيضا يحاولون الحصول على مكاسب مادية وسياسية (وليس عسكرية) مقابل عودتهم إلى المفاوضات. والتقديرات تشير، بناء على ذلك، إلى أن المفاوضات ستُستأنف في القريب، وفق الشروط الأميركية. والاستيطان يُجمد أيضا وفق هذه الشروط. فالجميع يقول نعم للأميركيين. ولم تعد تصلح مقولة نتنياهو القديمة: «لعم..» (أي القول «نعم» والفعل «لا»).