«اليونيسكو» تدرج المائدة الفرنسية التقليدية على لائحة التراث الإنساني

لكي لا ينسى الفرنسيون متعة الاجتماع حول طبق عائلي

حين يكون الطبق لوحة فنية (أ.ف.ب)
TT

حققت فرنسا، أمس، نصرا حضاريا طال انتظاره بإدراج مائدتها الباذخة على لائحة التراث غير المادي للإنسانية. وصوت غالبية أعضاء لجنة متخصصة من «اليونيسكو» لصالح الطلب الفرنسي، وذلك في اجتماع جرى في العاصمة الكينية نيروبي، أمس. وهي المرة الأولى التي «تدس فيها اليونيسكو أنفها» في موضوع يشكل اعترافا رسميا بثقافة الأكل وتقاليد المائدة. وتأتي هذه الخطوة بعد معركة ضارية خاضتها ممثلية فرنسا في المنظمة الدولية لدفع هذا الاقتراح نحو الأمام، وسط معارضة من دول مجاورة، مثل إيطاليا وإسبانيا، ترى أن مطبخها أحق بالدعم كتراث يندرج ضمن المهارات البشرية المتميزة في العالم. وتعبيرا عن أهمية الموضوع، فقد تولى الرئيس نيكولا ساركوزي بنفسه، عام 2008، إعلان النية بترشيح فنون الطبخ في بلاده لتحتل مكانها على لائحة التراث العالمي، وذلك أثناء حضوره المعرض الزراعي السنوي في باريس. وقد أثارت ملاحظة ساركوزي صدمة بعض المهتمين بفنون الأكل، في دول أخرى، لأنه قال: «نحن نملك أفضل مطبخ في العالم... من وجهة نظرنا». ونسي أولئك الشطر الثاني من العبارة واعترضوا على شطرها الأول.

جرى استكمال الملف والتقدم به، رسميا، مطلع هذا العام. وجاء في الطلب أن الوجبة الفرنسية الرفيعة هي «تقليد اجتماعي يهدف إلى الاحتفال بالمناسبات الأكثر أهمية في الحياة، ويركز على المشاركة الجماعية ولذة التذوق والانسجام بين الفرد وما تنتجه الطبيعة». ورغم قوة الملف الفرنسي، فإن المسؤولين عنه حبسوا أنفاسهم طيلة الأسبوع الماضي ولم يطلقوا صرخات الفرح إلا بعد إعلان النتائج، بعد ظهر أمس. وكانت سفيرة فرنسا لدى «اليونيسكو» كاترين كولونا، وهي خبيرة إعلامية، والناطقة الرسمية باسم «الإليزيه» في ولاية الرئيس شيراك، قد حذرت زملاءها من التفاؤل المبكر واعتبار أن «النصر بات في الجيب»، لأن الملف قد يفشل في اللحظة الأخيرة.

وهي المرة الأولى التي يثير فيها المطبخ الفرنسي ومائدته العامرة اهتمام اثنين من وزراء الثقافة في فرنسا، هما السابق جاك لانغ والحالي فريدريك ميتران. وقد جند الاثنان علاقاتهما لدعم الترشيح الفرنسي وسط أجواء من سوء الفهم. فالكثيرون يتصورون التراث قضية تتعلق بالأحجار والمباني التاريخية الآيلة للتداعي، التي تستحق الترميم بمساعدة «اليونيسكو». لكن حماسة فرنسا للموضوع تأتي من رغبة في توعية الأجيال الجديدة بأن فنون الطبخ المحلية هي مهارات متوارثة ولا بد من رعايتها وحفظها ونقلها للأجيال المقبلة. ثم إن وضع المائدة الفرنسية الرفيعة على لائحة «اليونيسكو» سيساعد، وهذا هو الأهم، في الوقوف بوجه بعض القوانين الأوروبية المتساهلة في قضايا الأطعمة ولا تتطابق وشروط الحفاظ على المستوى المطلوب في الأجبان والشوكولاته والأنبذة والطيور والأسماك وغيرها من مفردات الطبق الفرنسي التقليدي الفاخر.

وبالتأكيد، فإن الفوز الفرنسي سيدفع باريس إلى اعتماد إجراءات تعزز ثقافة الطعام وضرورة نشرها منذ المراحل الدراسية الابتدائية، مرورا ببرنامج تلفزيوني حول إعداد الأطباق التقليدية يجري بثه في أوقات المشاهدة الكثيفة، وانتهاء بتشييد متحف حديث على غرار مركز جورج بومبيدو الثقافي، مكرس للمطبخ. وتأتي هذه الإجراءات بعد أن كشفت دراسة قام بها البروفسور جان لوي مسيكا، نائب عمدة باريس لشؤون الأبحاث، عن أن فرنسيا واحدا من اثنين ما زال يمارس تقليد تناول الطعام على المائدة العائلية. وفي مقابل هذه الصورة القاتمة، هناك مصدر للتفاؤل يشير إلى أن صورة المطبخ قد تغيرت، في السنوات الأخيرة، من مكان للواجب إلى مكان للمتعة. وأنهى مسيكا بحثا كلفته به مؤسسة «نستله فرانس» ليلقيه في ندوة تنظمها في باريس، غدا الخميس. وجاء في البحث أن برامج الطبخ في القنوات التلفزيونية الفرنسية قد تغيرت في السنوات الأخيرة بشكل جذري وانتقلت من صيغة الطباخ الشهير «الشيف» الذي يلقن وصفاته للمشاهدين بشكل عملي، إلى صورة ربة البيت القديرة التي تقدم للجمهور وصفاتها وخبراتها الخاصة، وصولا إلى البرامج المهتمة بتقديم وجبات صحية وطبيعية ورخيصة الثمن. كما صارت حصص الطبخ تهتم بالجانب الاحتفائي للاجتماع حول المائدة وبفضول اكتشاف وصفات الشعوب الأخرى والمتعة في تعلم كل فرد، رجلا كان أو امرأة، مهارات الطبخ الصحي والبسيط، مع عدم نسيان الجانب الجمالي للطبق وفنون تزيين المائدة، لأن العين تأكل قبل الفم، كما يقال.