«رحلة في عالم العثمانيين» من القرن السادس عشر إلى اليوم

معرض تنظمه الدوحة لكشف صورة الأتراك في المرآة الأوروبية

مسجد في طرابزون عام 1870 كما رسمه جرمان فابيوس برست، والمسجد لا يزال قائما إلى اليوم («الشرق الاوسط»)
TT

الـ«رحلة في عالم العثمانيين» التي ينظمها «متحف المستشرقين» في قطر لا تكتسب أبعادها فقط من اللوحات الجميلة التي رسمها الفنانون الغربيون منذ القرن السادس عشر، وتحمل انطباعاتهم الاستشراقية عن إسطنبول والعثمانيين عموما، وإنما أيضا من ربط هذا المعرض بين ما تراه العين في اللوحات، والواقع القائم اليوم في تركيا. بهذا المعنى، فإن رؤيتك للوحات التي تنقلك بين المناظر العامة لإسطنبول والمساجد وأروقة القصور وباحات المساجد وصالات الحريم في تركيا، لن تجد معناها الحقيقي إلا حين تصل إلى قاعة عرض الفيلم المتقن الذي جهز لهذه الغاية خاصة، والذي يجعلك تزور كل لوحة مرة جديدة، ومنها تخرج صور متتالية تريك التغييرات التي طرأت على هذا المشهد، وصولا إلى ما هو عليه الحال اليوم.

ما يزيد على ثلاثين لوحة، كلها انطباعات سجلها مستشرقون زاروا تركيا وهي في قمة تألقها، ورسموا مشاهداتهم في لوحات زيتيه من مختلف الأحجام، يوم عزت الصورة، ولم يكن غير هؤلاء، لتعريف الناس بما يشاهدونه في أسفارهم. من متحف «رايكس» في أمستردام وغيره من المجموعات الخاصة المهمة في المملكة المتحدة وهولندا، جمعت اللوحات، لتستضيفها الدوحة حتى 24 من يناير (كانون الثاني) 2011، فرصة لكل زائر كي يستعيد زمنا غابرا، لا تزال سطوته قائمة. لكن يبدو أن الكثير من هذه اللوحات سيبقى في الدوحة بعد انفضاض المعرض، إما في «متحف المستشرقين» المغلقة أبوابه الآن، لذا يستضاف المعرض في «متحف الفن الإسلامي» بشكل استثنائي، وإما في «متحف الفن الحديث» الذي يفتتح نهاية العام، بينما يعاد المستعار منها من «متحف أمستردام الوطني» إلى أصحابه.

في اللوحات الأولى ترى مشاهد عامة لإسطنبول في القرن الثامن عشر وبداية العشرين.. نهر نبتت على جنباته المساجد والعمائر الصغيرة المتفرقة. تتوالى بعد ذلك صور السلاطين العثمانيين.. السلطان سليم الأول، ومحمد الثاني، ثم سليمان القانوني، والسلطان عبد الحميد، وآخرين.

عالم الحريم حاضر أيضا، لكنه ليس كالذي يمكن أن تشاهده بريشة المستشرقين في أماكن أخرى، فالنساء هنا محتشمات، صغيرات الحجم، جالسات بوضعيات محافظة. كل هذا لا يشبه ما يمكن أن يستفزك من جرأة عند يوجين دو لا كروا، على سبيل المثال. ولكن بمقدورك أن تستمتع بإطلالة إلى داخل «حريم السلطان» في القرن التاسع عشر، بريشة أنطوان اينيس مللينغ وبرؤية «حفل نسائي على نهر البوسفور»، ثم «موكب الزفاف»، و«نساء مستلقيات في الغرفة»، في سلسلة من الرسوم الزيتية التي صورها بريشته جان باتيست فان مور بين عامي 1727 و1737. وللرسام نفسه ثمة لوحة جميلة ومألوفة للناظر لدراويش يؤدون الرقص الصوفي الدائري في «تكية غلاطة» المولوية في بيرا. وهو ما تعود وتشاهده في الفيلم، كما يدور اليوم، خاصة أن الطريقة المولوية لا تزال حية في تركيا.

من الواضح أن المستشرقين الذين اشتهر عنهم اهتمامهم برسم النساء العربيات والشرقيات عموما، عنوا بشكل كبير برسم الحياة السياسية ومراسيمها. ومن هذه اللوحات تعرض في الدوحة واحدة تصور «موكبا إمبراطوريا» وأخرى لـ«باحة السراي» في القسطنطينية، وهي مشاهد وإن غاب الأشخاص الموجودون فيها، بفعل تقادم الزمن، فإن المواقع الجغرافية لا تزال حية، كما نرى في الفيلم المرافق للمعرض وكأنما تركيا لم تهدم موقعا أو تتخلى عن أثر، ولا تزال معالمها باقية منذ العصر العثماني على حالها.

ورسم جان باتيست فان مور مشاهد كثيرة، من احتفالية أقيمت للسفير الألماني في إسطنبول كورنيليس كالكوين، حيث نراه مع حاشيته يعبر باحة قصر «الطوب كابي الثانية»، وفي لوحة على مأدبة عشاء أقامها له الصدر الأعظم، وفي لوحة أخرى في مقابلة مع السلطان أحمد الثالث، كلها صور مأخوذة في العقد الثالث من القرن الثامن عشر، كما لو أن الرسام كان يلتقط صورا، ليبقى من تلك اللقاءات والأحداث ما يخلدها ويجعلها تقاوم الزمن.

هذه الاستقبالات السياسية والدبلوماسية كانت تقام في صالات قصور لا تزال موجودة، وساحات قائمة إلى اليوم، يستطيع الفيلم أن يروي لك حكايتها الماضية، والحالي منها، بالصوت والصورة.

يقام هذا المعرض ضمن احتفاليات «الدوحة عاصمة للثقافة العربية عام 2010»، وكان قد افتتح بالتزامن مع مؤتمر أكاديمي عالمي استمر على مدى يومي 28 و29 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث تم التداول في موضوع الاستشراق في الفن والتاريخ المشترك بين الإمبراطوريتين العثمانية والأوروبية، فضلا عن التبادل الثقافي بينهما من القرن السادس عشر حتى القرن الحادي والعشرين. كما أقيمت ورشة عمل للزي التقليدي في مركز التعليم (التابع لمتحف الفن الإسلامي) للأطفال من سن 9 إلى 13 عاما، حيث أعطي المشاركون فرصة لارتداء الزي التقليدي العثماني للشخصيات المفضلة لديهم من لوحات المستشرقين الموجودة في المعرض.