في كركوك.. الأرقام لا تعبر عن حقائق بل هي مجرد افتراضات

الخلافات السياسية تعرقل الإحصاء السكاني

TT

في هذه المدينة المحمومة بالتنافس، كما هي الحال في أجزاء أخرى بالعراق، الأرقام لا تعبر عن حقائق، بل هي افتراضات، فحتى الأجوبة التي يقدمها مسؤولون عراقيون عن أبسط الأسئلة، مثل السؤال عن عدد السكان الذين يعيشون في العراق حاليا وعن هويتهم، تصيب المرء بالدوار، فكل إجابة لها دافع سياسي أو تخضع لتهديدات باللجوء للعنف.

وأسهل الطرق لحل هذه المشكلة هي إجراء تعداد سكاني، وهو ما لم يقم به العراق بشكل كامل منذ ربع القرن. لكن الخلافات الطائفية والعرقية تعرقل هذه الخطط، حيث يخشى الكثير من العراقيين أن تؤدي نتائج التعداد إلى تمزق البلاد.

كركوك هي المدينة الرئيسية في الإقليم، وغنية بالنفط وأيضا بالاضطراب الطائفي، ويبلغ عدد السكان بها إما 1.3 أو 1.4 أو 1.6 مليون، بحسب قول مسؤولين في كركوك، على الرغم من أن عدد السكان أقل من مليون، بحسب تقديرات تقرير الأمم المتحدة الصادر عام 2009. ربما يقدر عدد العرب الذين غادروا منذ الغزو الأميركي عام 2003 بنحو 250 ألفا، وقد يكون عدد الأكراد الذين سكنوا المدينة منذ ذلك الحين أكبر، بينما من المحتمل أن تكون نسبة التركمان، الذين كانوا يمثلون يوما ما 60 في المائة من السكان، وصلت إلى 30 في المائة.

ويقول علي مهدي صادق، عضو تركماني في مجلس محافظة كركوك: «لا يمكن لأحد أن يخبرك بعدد دقيق». وحدد القادة العراقيون أكثر من موعد لإجراء التعداد السكاني، لكنه كان يؤجل في كل مرة. وكان آخر موعد قد تم تحديده الأحد الماضي. وقد قام المسؤولون، على الرغم من الإلزام الدستوري بإجراء تعداد سكاني منذ 2007، لكن الاقتتال الطائفي حال دون ذلك.

وأوضح نوري المالكي، رئيس الوزراء المكلف بتشكيل حكومة، في تصريح أعقب آخر تأجيل أن «تأجيل إجراء التعداد في الماضي يرجع إلى الظروف التي يمر بها العراق، خاصة الأمنية» وأضاف: «لم تعد هناك أسباب أمنية تمنع ذلك».

لكن الذي يحول دون ذلك الآن هو الخوف من أن يؤكد التعداد الأقوال المرسلة، خاصة في المناطق المتنازع عليها، سواء من جهة النفوذ السياسي أو امتلاك أراض أو النفط مثل كركوك ونينوى وديالى، حيث تخيم العرقية على الأمر بشكل ينذر بالعواقب. وجوهر المشكلة هو المناطق المتنازع عليها، التي يريد الأكراد ضمها إلى إقليمهم، الذي يتمتع بحكم شبه ذاتي، في شمال العراق. وفي ظل السياسات التي تجعل مكسب أحدهم يأتي على حساب الآخر، يحذر القادة العرب والتركمان، في هذه المناطق من تعزيز التعداد السكاني الدقيق للمزاعم الكردية، ومن ثم فقد تعهدوا بمقاطعة إجراء أي تعداد سكاني.

ويقول الشيخ عبد الرحمن منشد العاصي، أحد شيوخ القبائل السنية في كركوك: «إجراء تعداد سكاني الآن يعني التنازل عن منطقتنا لإقليم كردستان». وقد ثبت أن مصير التعداد، الذي يعد ضروريا لتحقيق التنمية في العراق على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي إحدى القضايا المربكة في العراق». ولا يبدو أن ائتلاف المالكي الحاكم الجديد سيتمكن من حل هذه المسألة قريبا بسبب صعوبة تقاسم السلطة.

وأشار جوزيف بايدن، نائب الرئيس الأميركي، إلى التعداد، باعتباره أحد أهم التحديات التي يجب على الولايات المتحدة أن تساعد العراق في مواجهتها، بالنظر إلى الانسحاب المبكر للقوات الأميركية بعد نحو عام.

وقد تم إجراء آخر تعداد سكاني شمل كل أنحاء البلاد عام 1987، وبعد عشرة أعوام أجرت الحكومة في عهد صدام حسين تعدادا آخر لا يشمل المحافظات الكردية الثلاث، وهي دهوك وأربيل والسليمانية، التي بدأت تخرج عن سيطرة حكومة بغداد المركزية تحت حماية الولايات المتحدة والأمم المتحدة، منذ حرب الخليج الأولى عام 1991. وكان عدد السكان الذي سجله هذا التعداد 19 مليونا.

ومن المفترض أن يوضح التعداد الجديد التغيرات الديموغرافية العميقة في العراق بعد الغزو الأميركي، بما في ذلك حركة الشيعة والسنة والأكراد، ومغادرة ملايين العراقيين البلاد.

وما زال الانقسام بين الأعراق في العراق، بما في ذلك التركمان والأشوريون والأعراق الأخرى، تقديريا، حيث يتأثر بالسياسة، خاصة بين السنة الذين كانوا يمسكون بزمام العملية السياسية والحكومة تحت حكم صدام حسين. ويستند عدد نواب البرلمان العراقي الجديد الذي يتكون من 325 عضوا، أي ما يمثل واحدا عن كل 100 ألف عراقي، إلى تكهن بأن عدد السكان قد وصل إلى 32.5 مليون، في حين يقدر بـ29 مليونا هذا العام، طبقا لكتاب «حقائق العالم» الصادر عن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.

وشهدت مدينة كركوك، التي تعد إحدى أقدم المدن المأهولة بالسكان على وجه الأرض، تحولات ديموغرافية وصراع ديموغرافي، حيث يزعم الأكراد أنها جزء من وطنهم الأصلي قبل أن يعمد صدام حسين إلى تهجير عشرات الآلاف منهم في الثمانينات، ويستقدم عائلات عربية لتحل محلهم. وسارعت قوات البيشمركة الكردية بدعم من الجيش الأميركي إلى إحكام السيطرة على جزء كبير من المنطقة، بما في ذلك مدينة كركوك بعد الغزو الأميركي. ومنذ ذلك الحين دعموا سيطرتهم ونفوذهم على العملية السياسية والأمن في الإقليم، مما أثار شعورا بالظلم لدى العرب والتركمان الذين يواجهون التمييز والتهديد والعنف. ولا يزال هناك لواء من الجيش الأميركي في قاعدة تقع على أطراف المدينة، فضلا عن مقرات للقيادة المركزية لا تزال تخطط لتنفيذ عمليات محتملة، على الرغم من إعلان الولايات المتحدة إنهاء المهمة القتالية في العراق في 31 أغسطس (آب) الماضي. وقد شكا راكان سعيد، نائب محافظ كركوك، وهو من العرب، من عدم تمكنه من وقف بناء ما سماه المستوطنات الكردية غير الشرعية في كركوك، لأن المحافظ وجميع القادة الأمنيين من الأكراد تابعون لحكومة إقليم كردستان. وقد شبه استقدام سكان أكراد بالاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. وقال بغضب في مكتبه بأحد المباني الحكومية الذي يعلوه لافتة جديدة تحتفي بإعادة انتخاب الرئيس الكردي جلال طالباني: «ليس بوسعي فعل أي شيء».

* خدمة «نيويورك تايمز» وفشل الدستور العراقي لعام 2005 في تقديم حل لقضية الحكم في كركوك، لكن المادة 140 من الدستور نصت على طريقة قد تحل المشكلة تضمنت إجراء تعداد سكاني واستفتاء على مصير كركوك. واستشهد القادة الأكراد بالمادة 140، كعقيدة يقينية وجعلوا تنفيذها شرطا للمشاركة في حكومة المالكي الائتلافية الجديدة.

وأوضح برهم صالح، رئيس وزراء إقليم كردستان، أن أي تأجيل أخر لإجراء التعداد السكاني يعد خطوة للوراء بالنسبة إلى الائتلاف الوليد، حيث قال في مقابلة في بلدة دوكان، وهي منتجع يطل على بحيرة في شمال شرقي كركوك: «نحن بحاجة إلى ثقة وشجاعة لمعالجة بعض هذه المواضيع».

وانتهت وزارة التخطيط العراقية من التحضير لإجراء تعداد سكاني تحت إشراف الأمم المتحدة، التي ستقوم بتدريب أكثر من 230 ألف عداد. وعوضا عن تحديد موعد جديد، قام المالكي بتشكيل لجنة، في محاولة لحل ما يتعلق به من مأزق سياسي، بما في ذلك شكاوى السنة من احتمال عدم دقة التعداد في نينوى وكركوك الخاضعتين للسلطة الكردية. وكان من المقرر أن يجرى التعداد في 2007، ثم حدد له موعد آخر في أكتوبر (تشرين الأول) 2009، وفي الشهر نفسه من عام 2010، ومؤخرا خلال الشهر الحالي، لكن يبدو أنه سيؤجل أيضا هذه المرة إلى أجل غير مسمى.

واقترح بعض المسؤولين حلا وسطا لتسوية هذه المسألة العرقية وهي إجراء تعداد سكاني مع تنحية مطالبة الأكراد أو العرب أو التركمان أو الجماعات العرقية الصغرى بهذه المنطقة جانبا، وهو ما يعارضه الأكراد بطبيعة الحال. وقال صالح تعليقا على التعداد السكاني: «تأجيل التعداد يؤجل حسم المشكلة، وهو ما يزيد من تعقدها ويغذي جنون الارتياب وانعدام الثقة في قيادة هذه الدولة التي تبدو كأنها لا تريد حل مشكلاتها».