«دبي» ما زال في الطليعة بعد سبع سنوات من انطلاقته

يوميات مهرجان دبي السينمائي الدولي 1

فيلم «خطاب الملك» في مقدمة الأفلام المطروحة لنيل الجوائز
TT

تنتقل العيون من مهرجاني القاهرة ومرّاكش إلى مهرجان دبي الذي ينطلق اليوم الثاني عشر من ديسمبر (كانون الأول) في دورته الجديدة. ثلاثة مهرجانات تتعاقب على نحو متواصل ومكثّف هدفها واحد وطرق الوصول إليه متعددة.

في القاهرة اجتمع أهل الفن من مصريين وعرب وأجانب في حفل كبير في البداية وآخر في النهاية بينما توالت الأفلام جاذبة إليها الباحثين عن الجديد في عتمة الصالات. منذ سنوات، وهذا اللقاء لا يفعل أكثر من ذلك، بعدما تكاثرت عدد المهرجانات المنافسة في المنطقة، وتم انتزاع المبادرة منه. المهرجانات الأخرى، أبوظبي من هنا والدوحة من هناك ثم مرّاكش ودبي، تتمتّع بقدرات ماديّة تجعلها قادرة على صياغة علاقة أكثر حتمية وآنية مع عالم العروض السينمائية وثقافاتها، وتتميّز بإدارات حديثة ذات آلية سريعة وغربية التفكير ومنوال العمل، مما يؤمّن لها مشاركات أوسع ويمنح جهودها صبغة مستغربة من دون أن تكون بالضرورة متغرّبة. نسيج يبدو تآلفا طبيعيا (سواء كان ذلك فعلا أم لم يكن) بين ما هو عربي - شرقي وما هو أجنبي - غربي.

في مرّاكش تم تقديم دورة عاشرة، جديدة بأفلامها، قديمة بمؤيّديها ومعارضيها. نائب الرئيس نور الدين الصايل من أكثر المدافعين عنها، ونُقل عنه أنه قال معلّقا على انتقادات أن الدورة كانت فرنسية أكثر من اللازم، إن فرنسا دولة ذات تاريخ سينمائي عريق ولا يمكن تجاهلها وتستحق من المهرجان التكريم. والمنتقدون عابوا على التوجه الفرنسي والغياب العربي، بل والغياب المغربي ذاته، ملاحظين أن هذه الدورة عادت إلى منطلقات الدورات الأولى، حيث كان استبعاد السينمائيين المغاربة وأعمالهم أمرا شبه عادي من قبل الإدارة الفرنسية التي تتولاه.

هذا يترك مهرجان دبي السينمائي الدولي، ليس بالمقارنة مع ما أنجزه أو لم ينجزه كل من «القاهرة» و«مرّاكش»، بل مع حصيلة مهرجانات أخرى مثل «دمشق» و«قرطاج» و«الدوحة»، والمنافس العتيد «أبوظبي».

وإذا ما كنا تحدثنا هنا سابقا عن المنافسات القائمة بين مهرجانات السينما العربية، فإن ما هو جديد في هذا الموضوع هو أن كل هذه المنافسات لم تؤثر على وضعية أي من هذه المهرجانات بعد. هذا العام، كان عام المحك الذي كان متوقّعا له أن يفصل ويحسم. هل يقف «قرطاج» على قدميه من جديد، كما كان حاله قبل سنوات ليست بعيدة؟ هل يتجاوز «دمشق» العثرات التي تواكبه بسبب من وضعيته المختلفة؟ هل يقفز «القاهرة» فوق مصاعبه المالية؟ هل سيستغل مهرجان مراكش مناسبته العاشرة لإدخال تعديلات؟ ما هو حال مهرجان الدوحة في دورته الثانية؟ هل سيكون بداية جديدة؟ وماذا عن مهرجان أبوظبي؟ هل سرق السجّادة من كل المهرجانات الأخرى؟ وهل أصيب مهرجان دبي بمقتل كونه آخر المهرجانات مما يجعل الأفلام العربية (التي هي بيت القصيد بالنسبة لمعظمها) تلجأ إلى المهرجانات الأقرب إليها، وكونه يعمد إلى أسلوب تعاط مختلف مع السينمائيين قائم على خطّة من الاحترام المهني المتبادل؟

من سبتمبر (أيلول) إلى هذا اليوم، توالت هذه الأسئلة، ومع نهاية كل مهرجان توالت الأجوبة أيضا: لا شيء تغير. لا شيء تأثر. لا شيء ارتفع ولا شيء هبط. وقف «قرطاج» على قدميه من دون أن يستعيد أمجاده. أثبت مهرجان دمشق حضوره من دون أن يتجاوز عثراته. أقيم مهرجان القاهرة بميزانيّته المحدودة وأثار النقاشات ذاتها. احتفى «مراكش» بمناسبته الخاصّة من دون أي تعديلات. و«الدوحة» أقيم للمرة الثانية ولو من دون تغيير أو نمو. وأقام مهرجان أبوظبي استعراضا كبيرا من الأفلام والنجوم والمشاريع من دون أن يسرق السجادة من تحت أي قدم. أما «دبي» فلم يُصب لا بمقتل ولا حتى بجرح. لا زال هو مسك الختام لموسم حافل كما كان سابقا ومنذ إقامته للمرة الأولى سنة 2004.

عروض أولى

* لحينٍ، خلال الصيف الماضي، بدا القلق واضحا على محيا مؤيدي هذا المهرجان وبعض مسؤوليه: هناك مهرجانات منافسة وبعضها يملك ميزانيات مماثلة لميزانيّته أو أكثر منها، وهي تصرف منها على جذب السينمائيين وأفلامهم. توفّر إغراءات عدّة. بعضها متمثّل برفع قيمة الجوائز، والبعض الآخر يدخل في نطاق الحوافز. كثير منها ممارسات لم يشهدها العمل المهرجاناتي من قبل ويتضمّن تقديم الأموال مسبقا مقابل أن يوافق المنتج أو المخرج أو كلاهما معا على تخصيص هذا المهرجان أو ذاك بفيلمه. زاد الطين بلّة حقيقة أن مهرجان دبي يأتي في نهاية الموسم. يمر قطار المهرجانات على كل تلك المحطات الصغيرة والمتوسّطة والكبيرة ثم يتوقّف عند دبي. من ذا الذي سيفضّل تفويت الفرص السابقة وانتظار المحطّة الأخيرة؟

مدير المهرجان الفني، السينمائي مسعود أمر الله، كان متوجّسا من أن الكثيرين من السينمائيين سيفضّلون التعامل مع ما هو مغر وجاذب و«مفيد» على الانتظار حتى الشهر الأخير من العام لدخول مسابقة تُقام على أسس سليمة ورصينة.

و.. كان معه حق. الكثيرون فعلا فضّلوا «أبوظبي» و«الدوحة» وتوجهوا إليهما، خصوصا مع تلك الحوافز المالية المسبقة التي وضعتها إدارة المهرجانين أمامهم. لكن، وما لم يكن محسوبا تماما، هو أن العديد من السينمائيين كانوا أعلى إدراكا لما يحاول «دبي» إنجازه جدّيا على صعيد العمل المهرجاناتي والتزموا به. لا عجب إذن أن برنامج الدورة السابعة من المهرجان يخلو من أمارات الضعف أو الهوان أمام المتغيرات والمنافسات. ليس هذا فقط، بل تعد أفضل دورة قدمها المهرجان إلى اليوم.

من الثاني عشر إلى التاسع عشر من هذا الشهر تتوالى الأفلام غزيرة ومتتابعة: 157 فيلما جاءت من كل قارات العالم. منها 41 فيلما هي عروض دولية أولى. عدد الأفلام العربية، تلك التي تعتبر المحك الفعلي والرئة الأولى التي يتنفس بها المهرجان العربي، يبلغ 70 فيلما. العدد الإجمالي المذكور هو انعكاس لنمو يبلغ ثلاثين في المائة مقارنة مع عروض العام الماضي.

والتميّز ينطلق من اليوم الأول. فيلم الافتتاح هو أحد تلك الأفلام التي تشملها توقّعات كبيرة في الفوز بجائزة الأوسكار كأفضل فيلم. عمل بريطاني رصين من تلك التي لا يحسن سوى السينمائيين الإنجليز تقديمها، خصوصا حين ترتبط بتاريخهم الوطني وبثقافتهم السياسية والاجتماعية.

إنه «خطاب الملك» المطروح بشدّة؛ لا على صعيد الأوسكار فقط بل على صعيد جوائز العام الدولية كلها، مثل الغولدن غلوب الأميركية، والبافتا البريطانية والسيزار الفرنسية. ومعه مطروحة أسماء كولين فيرث، الذي يؤدي البطولة لاعبا شخصية الملك جورج السادس. كذلك من أقوى المرشّحين الممثلين هيلينا بونهام كارتر عن دور زوجة الملك وجيفري رَش في دور الطبيب الذي لم يكن يحمل شهادات، لكنه نجح في مداواة معضلة خطيرة لم يكن يصلح جورج لأن يكون ملكا على عرش بريطانيا بوجودها.

الفيلم الواعد

* الفيلم، وممثلوه، فازوا فعلا بجوائزهم الأولى، وذلك خلال حفل جوائز السينما البريطانية المستقلة. والفيلم في حد ذاته إنتاج مستقل ومحدود الكلفة. معظم ميزانيّته التي لم تزد عن مليوني دولار ذهبت إلى ممثليه وإلى إتقان ملامح وشروط الفترة التاريخية التي تدور فيها الأحداث.

نتعرّف على الملك جورج السادس (كولين فيرث) الذي كان يعاني من التأتأة، خصوصا حين يواجه مهمّة إلقاء خطاب أو الحديث رسميا في مجمع ما. الملك البريطاني كان مدركا أن البلاد لن تطيق سماع رئيس دولة لا يجيد الكلام. وهو سعى للتغلّب على هذه المعضلة عبر الذهاب إلى عدة أطبّاء، لكن أحدا منهم لم يستطع نفعه. أخيرا، اهتدى إلى طبيب أسترالي اسمه ليونيل لوغ (جفري رَش) الذي بدأ يمارس معه تدريبات نطق غير تقليدية إلى أن استطاع إنجاز المهمّة في الوقت المناسب: خطاب الملك بمناسبة تولّيه العرش. كل هذا والطبيب أخفى عن الملك أنه ليس طبيبا على الإطلاق، لكنه أسترالي مهاجر وربما ترك وطنه هربا من قضاء صادر بحقّه.

أدوات المخرج الفنية ليست متعددة. مفاتيحه في هذا المجال محدودة ومفرداته اللغوية بسيطة. لكنه يحسن الإمساك بالاهتمام وإدارة الممثلين وخلق مشاهد متوتّرة على بساطة تكوينها. إننا أمام ملك يعرف أنه يطلب ما يبدو المستحيل، لكنه موزّع بين الضغط المتمثّل في مركزه المرتقب وبين القبول بالهزيمة والاستسلام لمشكلة تلعثمه. لاحقا يجد نفسه أيضا موزّع الرغبة ما بين طرد الطبيب المزيّف واعتبار أنه خاض معه تجربة خاسرة، وبين الدفاع عنه أمام رجال البلاط والكنيسة على إيمان داخلي منه بأن هذا الطبيب لديه ما يدعو للثقة.

لكن أهم ميزة لهذا الفيلم ليست في الإدارة الفنية والمعالجة القصصية، بل في التصميم الفني من ناحية والتمثيل من ناحية أخرى.

في المجال الأول، عمد الفيلم إلى ألوان داكنة وهادئة على العين (بني، أسود، أخضر، أزرق داكن) تيمّنا بفترة لم تكن فيها الألوان الفاقعة معتمدة كما في الحقب اللاحقة. هذا إلى جانب أن معظم الأحداث داخلية، مما يحدد نوعية الألوان المستخدمة (في مقابل ألوان الطبيعة الأكثر إشراقا). أما التمثيل فهو إنجاز رائع من قبل الجميع، خصوصا كولين فيرث. هنا يجب أن لا ننسى أن تمثيل التلعثم أمام الكاميرا ليس فقط صعبا على الممثل، بل صعب على الفيلم، لأنه يتطلّب منه تحويل الصد الآلي للمشاهدين إلى قبول. المخرج يحقق ذلك بنجاح، لكنه لم يكن سيحقق شيئا لولا حسن أداء ممثله للدور.

أفلام وأقسام

* عربيا هذا العام، فإن الأفلام المعروضة تعكس تحدي المهرجان لحشد أفضل ما استطاعت العواصم العربية إنجازه. التحدي مزدوج من حيث إن عليه البحث بعناء عن أفلام جيّدة يعرضها، وأن يبحث عنها فيما تبقّى من أعمال لم تحاول اللحاق بركب المهرجانات الأخرى التي تناثرت قبله. اثنا عشر فيلما روائيا طويلا في المسابقة. ثلاثة من مصر، هي: «ستة، سبعة ثمانية» لمحمد دياب و«الخروج» لهشام عيسوي و«ميكروفون» لأحمد عبد الله. وثلاثة من المغرب: «براق» لمحمد مفتكر، و«ماجد» لنسيم عبّاسي، و«عند الفجر» لجيلالي فرحاتي. وفيلمان من العراق: «الرحيل من بغداد» لقتيبة الجنابي، و«المغنّي» لقاسم حول. وفيلمان من سورية: «دمشق مع حبّي» لمحمد عبد العزيز، و«مطر أيلول» لعبد اللطيف عبد الحميد، ثم فيلم من كل من لبنان («رصاصة طائشة» لجورج الهاشم)، والأردن («مدن الترانزيت» لمحمد الحشكي).

وما هو جدير بالملاحظة هو وجود ارتفاع في عدد الأفلام المصرية المنتمية إلى سينما مختلفة، سمّها بديلة أو مستقلّة أو «غير شكل».

كما أن هناك استمرارية لسينما تخرج من رماد الوضع العراقي الصعب الذي عوض أن يحد ويمنع من الإنتاج، بات سببا له.

فوق ذلك كله، هناك مزيج من أعمال سينمائيين من أجيال سابقة (أطولهم باعا المخرج العراقي قاسم حول) وبين أعمال سينمائيين من الجيل الجديد، وبعضهم (كما الحال مع الأردني محمد الحشكي) يقدم فيلمه الأول.

لكن الحالة التي يخلقها هذا الحشد المدروس من الأعمال، ليست محدودة في مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية، ولا حتى لمسابقة الأفلام القصيرة والتسجيلية، بل هي حالة منتشرة في العديد من الأقسام الموازية. في السنوات السابقة، بدا واضحا أنه في الوقت الذي يقبل فيه الجمهور الإماراتي كما المقيم في الإمارات على الأفلام العربية كما لو كان يحاول معرفة أين وصلت في مشوارها إلى الآن، يقبل كذلك على الأفلام الأجنبية التي يعلم أن التوزيع التجاري لن يشملها. من بين هذه الأفلام ما يجد حالة شيوع نقدية في الغرب كما حال «خطاب الملك»، أحد هذه الأفلام وأقواها أيضا «عظم الشتاء» لمخرجة سينمائية تبدو وُلدت عملاقة اسمها دبرا غرانيك، إنها تحيط موضوعها، الذي سنتعرض إليه في رسالة لاحقة، بكثير من الحس الطبيعي والإنساني في قصّة هي تعليق اجتماعي وعاطفي ونفسي مستمر من لقطة ساحرة إلى أخرى.

في عالم مختلف تماما تقع أحداث فيلم «العودة» للأسترالي بيتر وير، ويدور حول مجموعة من البوسنيين ينوون العودة إلى قريتهم خلال الحرب الأهلية. «127 ساعة» لداني بويل، عن تلك الرحلة السعيدة لبطله (جيمس فرانكو) التي تتحوّل إلى كابوس.

وفي حين أن الفيلم التركي الساحر «عسل» الفائز بذهبية مهرجان برلين الأخير من تلك الأفلام التي سمع أو قرأ عنها المتابعون والهواة العرب كثيرا قبل وصولها إلى شاشة «دبي»، فإن «جزيرة الغموض» للياباني شينسوكي ساتو من تلك التي لم تشهد عروضها بعدا عالميا وتنتظر حكم جمهور المهرجان العربي. إنه ليس مجرد فيلم جيّد، لكنه فيلم أنيماشن جيّد يحمل ما لا تحمله معظم أفلام الأنيماشن المتداولة من فن ورسالة وألوان في مكانها. هذا الفيلم معروض في قسم خاص للأطفال، واحد من خمسة عشر قسما على المرء أن يتابع منها ما يستطيع ومن الأفضل أن لا يغفل أيا منها.. إذا ما كان ذلك ممكنا.