قطر تفتتح «متحف الفن العربي الحديث»

أكبر تجمع للأعمال التشكيلية الحديثة

الزوار يجولون في المتحف يوم افتتاحه («الشرق الأوسط»)
TT

في أجواء احتفالية، افتتحت قطر، يوم أول من أمس، الثلاثاء، «المتحف العربي للفن الحديث» بحضور ما يزيد على ألف مدعو. حضر الافتتاح أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وعقيلته الشيخة موزة، وابنته الشيخة مياسة، وصاحب فكرة المتحف ومؤسسه الشيخ حسن بن محمد بن علي آل ثاني.

وبافتتاح هذا المتحف تكون قطر قد سجلت إنجازا جديدا ستظهر آثاره مستقبلا، إذ للمرة الأولى في العالم العربي يوجد متحف يضم بين جنباته هذا الكم من الأعمال التشكيلية الحديثة، ذات القيمة الفنية الرفيعة التي تمثل مختلف التيارات والأساليب التي عرفتها المنطقة في المائة سنة الأخيرة. ويملك هذا المتحف الوليد اليوم ما يزيد على 6 آلاف عمل فني، لا يعرض منها في الوقت الحالي سوى 400 عمل فقط، لضيق المكان، على أن يتم استبدال المعروضات بشكل دوري ليتسنى للجمهور الاستمتاع بتأملها.

والمبنى الذي تم تحويله إلى متحف، هو بناء قديم لمدرسة، تقع بالقرب من المدينة التعليمية، عمل المهندس الفرنسي جان فرانسوا بودان، المعروف في مجال تصميم المتاحف، على تحويلها إلى مكان يليق بالمعروضات القيمة الموجودة فيه، ويضفي عليها سحره الخاص.

خلا حفل الافتتاح الرسمي من الخطابات والكلمات الرسمية كليا التي تركت مكانها لفرقة موسيقية وعدد من الفنانين الذين غنوا بالعربية والإنجليزية في باحة المتحف، في حين كان الحضور ينقسم بين مختار للموسيقى، ومكتشف للمعروضات التي بهرت الكثيرين. فغالبية التشكيليين العرب الذين اختيرت لوحاتهم ومنحوتاتهم هم من ذوي الأسماء المعروفة الذين سبق ربما للزائر أن رأى أعمالا لهم، لكن الجديد هذه المرة هو جمع كل هذه الأعمال في مكان واحد وتقديمها، منسقة وفي مجموعات تبعا لموضوعها، مما يتيح للمتفرج المقارنة بينها، ورؤيتها من منظور مختلف.

المبنى الحالي للمتحف، كما يشرح مؤسس المتحف الشيخ حسن، هو مكان مؤقت ويضيق على المجموعة الفنية الكبيرة التي تنتظر في المستودعات أن يتم تشييد المكان الملائم لاستقبالها وعرضها. وقطر في طور إنشاء هذا المبنى الجديد الذي سيأخذ مكانه على الواجهة البحرية، ليس بعيدا عن «متحف الفن الإسلامي».

ويكمل الشيخ حسن شارحا أن آلاف القطع الموجودة في المخازن هي اليوم تحت تصرف البحاثة والدارسين. فالهدف الأساسي ليس فتح متحف جديد فقط، وإنما جمع هذه الثروة التي لم تلق العناية الكافية بها في المنطقة كلها، وبقيت متناثرة هنا وهناك، وتصنيفها وأرشفتها وجعلها في متناول الجمهور كما في متناول المهتمين من الباحثين والدارسين، خصوصا أن مهتمين من الشرق والغرب يريدون اليوم التعرف على الفن العربي الحديث، لكنهم لا يعرفون المرجعية الصالحة التي تستطيع الإجابة عن أسئلتهم.

ويضم المتحف، بمبناه المؤقت، إضافة إلى صالات العرض، مكتبة ومركزا للبحث وكافتيريا، وهو بحسب ما يقدمه القيمون عليه نواة أولى سيتم تطويرها، وما نراه اليوم ليس اللبنة الأولى لمشروع تراكمي يحتاج للمتابعة والمراكمة المستمرين. ويشرح الشيخ حسن قائلا: «نحن نفتح أبوابنا اليوم ومستودعاتنا لكل الراغبين في إجراء أبحاث ودراسات». علما بأن المتحف يقوم بدراساته الخاصة، كما أنه يحضر لإصدار موسوعة حول «الفن العربي الحديث» تبدأ إنترنتية ثم تطبع ورقية.

يعتبر الشيخ حسن المتحف فريدا من نوعه، ويصفه بأنه «أول بيت للفن العربي الحديث، وقطر جديرة بأن تأخذ على عاتقها هذه المهمة لمصداقيتها، ولأن هناك من يريد أن يتحمل هذه المسؤولية».

مدخل المتحف الذي انتصبت في ساحته منحوتات لعدد من الفنانين العرب، يقود إلى بهو كبير وضعت على أحد جدرانه لوحتان كبيرتا الحجم بالأبيض والأسود لأمير قطر وزوجته الشيخة موزة. بهو متسع يقود إلى صالات العرض التي تحتضن تحت اسم «سجل»، وهي المجموعة الأولى من مقتنيات المتحف التي تعرض على الجمهور. ويشرح لك القيمون هنا أن كل مجموعة أعمال جديدة سيتم عرضها ستحمل اسما مختلفا. أما هذه المجموعة الافتتاحية فقد أخذت اسمها من قصيدة الشاعر محمود درويش «سجل.. أنا عربي». عنوان موفق له دلالته التي حملت من الشعر ليتم إسقاطها على الفن التشكيلي.

البهو الرئيسي يقود الزائر إلى 12 رواقا، كل رواق يضم لوحات لها موضوع يجمعها. تحت عنوان «الطبيعة»، تكتشف أعمالا للفنانين اللبنانيين شفيق عبود، وصليبا الدويهي وجورج قرم، كل منهم له أسلوبه وطريقته، مثل السوري فاتح المدرس، والمصري رمسيس يونان، وآخرين. تلحظ منذ البداية أن المتحف يعرف كيف يعرض مقتنياته، ويجعل المتفرج قادرا على قراءة اللوحات بحساسية منفتحة، بفضل المهارة في أسلوب العرض، والحرص على تبسيط المهمة على الزائر. بكلمات بسيطة وعبارات موجزة، كتبت عند مدخل كل رواق، يمتلك المتفرج ما يشبه المفتاح الأولي للوحات التي سيكتشفها. وقبل أن تدخل رواق «الطبيعة» تقرأ ما معناه أن اللوحات الطبيعية هي الأقل شعبية في العالم العربي، وذلك على عكس أوروبا. ركز الفنانون العرب على خصوصيات أوطانهم، وهذه اللوحات المعنية بالطبيعة لها أتباع في فلسطين ولبنان وتمثل بالنسبة للفلسطينيين الأرض في ظرف سياسي خاص.

هناك أيضا رواق «المدينة» الذي يصور المدينة العربية كما رآها الفنانون، بسيطة وشعبية، ورسموا سوق الخضار والتجمعات أمام المنازل، واكتفى البعض برسم المسجد أو الحي فارغا من أهله.

وربما أن أكثر هذه الأروقة غنى هو الذي خصص لموضوع النزعة الفردية. ربما لأن الفردية من المواضيع التي تحتمل سجالا حارا في العالم العربي. الوجوه التي رسمها الفنانون، والأشخاص الذين يقدمونهم، كما تراهم في اللوحات هم، يدعونك لقراءة ملامحهم وأحاسيسهم ورغباتهم وآلامهم.

أكثر الأروقة مدعاة للاهتمام هو الذي يحمل اسم «قاعة الدوحة». وهي على عكس ما يمكن أن يتصور البعض، ليست مخصصة للفنانين القطريين، فهذا ليس ما يبغيه المتحف النزّاع إلى الانفتاح والحوار، وإنما هو قسم غني بلوحات أنجزها فنانون عراقيون هربوا من نيران بلادهم ووجدوا في قطر ملجأهم خلال العقدين الأخيرين. والأعمال الموجودة هنا إلى جانب صورهم الشخصية، في المشغل الذي استقبلهم وفتح لهم أبوابه في قطر، هي نتاج تفاعلهم مع المدينة. هنا أعمال لضياء العزاوي، وشاكر حسن آل سعيد، وإسماعيل فتاح. هذا الفنان الذي توفي تاركا أعمالا نحتية لم تنجز، وأصر الشيخ حسن على أن تبصر النور فكلف آخرين بإنهائها لتبقى هنا شاهدة على حياة وموت فنان مهاجر وجد من يحقق له رؤيته حتى بعد موته.

لا بد أن تلفتك المنحوتات التي تركها إسماعيل فتاح، فهي من التماثيل التي تجسد أشخاصا، ثمة تحفظات عليها في بعض المجتمعات الإسلامية. ولا بد أن تلفتك لوحات ولو كان عددها قليلا، فيها شيء من العري. نسأل وسن الخضيري، أمينة المتحف، إن كان ثمة انتقائية في المعروضات راعت حساسية الجمهور القطري وطبيعته المحافظة، فتقول: «المتحف لم يفتتح بعد لنعرف ما الذي يريده الناس، وما الذي يرفضونه. وإن حصل هذا فإن المتحف هو مكان للحوار والنقاش، وعندها سيطرح كل وجهة نظره». وعما إذا كانت رقابة ولو ذاتية من قبل المتحف خضعت لها المعروضات، وهل استبعد بعضها لأسباب لها علاقة بالعري أو التجسيد؟ تجيب وسن الخضيري: «لا رقابة على الفن في قطر، نحن عرضنا ما عندنا. هذا هو ما أنجزه الفنانون العرب، نعرضه على الناس كما هو».

أروقة المتحف كثيرة، منها ما هو مخصص للوحات ذات المنحى التجريدي، وأخرى التي تعكس صورة الأسرة، ورواق آخر عنوانه «المجتمع» وغيره «الحروفيات».

متحف أرادته قطر حديثا حيويا، بعيدا عن الجمود الذي اعتادته المتاحف العربية، لذلك راعت دوره التعليمي والبحثي، يستقبل الفنانين، يؤويهم ويقدم لهم الهبات ليعملوا، وهو أيضا مكان للحوار واللقاء.

وربما أن أجمل ما يمكن أن تعرفه عن هذا المتحف هو قصة إنشائه التي بدأت بفضول وحماس كبيرين للشيخ حسن بن علي بن محمد بن علي آل ثاني. وهو متخصص في التاريخ، حبه للاستطلاع جعله منذ صغره عاشقا للفنون التشكيلية، وبدأ باقتناء اللوحات باكرا والاهتمام بالفن العربي الحديث متابعا حركته حتى تمكن بشكل شخصي، من جمع آلاف اللوحات. وافتتح هذا المفتون بالفن في عام 1994 متحفا صغيرا في فيلا خاصة به، فتحه للزوار ومن يريدون التعرف على المجموعات، ثم بدأ باستقبال الفنانين العراقيين المهاجرين مقدما لهم ما يحتاجونه من دعم. وعندما وجد الشيخ حسن أنه بحاجة إلى تطوير مشروعه عرض على رئيس مؤسسة قطر الشيخة موزة زوجة أمير قطر أن يتم تبني رؤيته فتجاوبت بحماسة، لنصل اليوم إلى هذا المشروع الكبير والطموح.

ولإعطاء دفع للمتحف، افتتح على هامشه معرضان كبيران وهامان أحدهما يحمل اسم «محكي، مخفي، معاد» يشارك فيه 23 فنانا عربيا غالبيتهم من المقيمين في الغرب بتجهيزات وأعمال مبتكرة معاصرة. أما المعرض الثاني فيحمل عنوان «مداخلات» وهو عبارة عن تكريم جميل لخمسة من الفنانين العرب الكبار المعاصرين الذين لعبوا دورا في بلادهم، وفي دفع عجلة الفن الحديث، وهم ضياء العزاوي، وفريد بكاهية، وأحمد نوار، وإبراهيم الصالحي، وحسن شريف.

ثلاثة احتفالات كبيرة عاشتها قطر خلال يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين ليسوا سوى البداية لرحلة طويلة قررت الدوحة أن تخوضها بكل ما أوتيت من إمكانات مالية وحماس وحرفية عالية، مستعينة بمهارات اختصاصيين كبار في مجال المتاحف في العالم.