الدوحة تحتضن «مجانين» الحداثة العربية مع مفاجآتهم الممتعة

23 حكاية لرحلات تعبر الزمان والمكان

عائلة الفنان جعفر خالدي كما يتمناها
TT

لم تكتف قطر بافتتاح «معرض الفن العربي الحديث» الذي يعطيها مكان الصدارة فيما يتعلق بجمع وأرشفة ودراسة الفن التشكيلي في المنطقة طوال المائة سنة الأخيرة، وإنما قرنت هذا الافتتاح بمعرضين مؤقتين أحدهما عبارة عن تكريم لستة من الفنانين المعاصرين الذين يعملون على الساحة في الوقت الراهن من خلال تقديم عدد من أعمالهم السابقة وأعمال أخرى طازجة أنتجت خصيصا للمناسبة وحمل اسم «مداخلات: حوار بين الحداثة والمعاصرة». أما المعرض الثاني، وهو الأكثر إثارة وجنونا، فيحمل اسم «محكي، مخفي، معاد»، وفيه مفاجآت وابتكارات متعة للنظر والاكتشاف. هذا المعرض جمع 23 فنانا عربيا غالبيتهم من المقيمين في الغرب وطلب إلى كل منهم تنفيذ عمل له علاقة بالسرد، وبقصته الشخصية التي يريد أن يحكيها. ويخبرنا الفنان اللبناني المقيم في أميركا سام بردويل، القيم على هذا المعرض أن «غالبية الأعمال جاءت مسكونة بالترحال، وكأنما هؤلاء الفنانون لم يجدوا مستقرهم في الأماكن التي ذهبوا إليها». لذلك ارتأينا، يضيف بردويل «تقسيم الأعمال التي نفذها الفنانون وفق ثلاثة أنواع من الرحلات. هناك الأعمال التي تتحدث عن الحاضر وأطلقنا عليها اسم (محكي)، وتلك التي تتحدث عن المستقبل حملت اسم (مخفي) و(معاد) هي التي تستلهم الماضي».

يقف الزائر عند مدخل المعرض لتستقبله ثلاثة أبواب، لكنها كما في القصص الأسطورية تصل جميعها إلى مكان واحد، لذلك بإمكانك اختيار الباب الذي تشاء لتبدأ رحلتك منه. ندخل عالم الحاضر أو «المحكي» ليستقبلنا عمل للمصرية غادة عامر، وهو كرة من حروفيات عربية قلبها فارغ ومضاء. كرة تقرأ عليها مفردات الحب العربي المتنوعة التي وجدتها الفنانة في القاموس ملونة كما قوس قزح. عمل يشي بالفرح والإقبال على الحياة ويصلح ليزين بهوا متسعا لأحد المراكز التجارية. أما خالد التكريتي من سورية والمولود في لبنان، فيعرض لوحات رسم فيها عائلته. وجوه كأنها مرسومة بتقليدية، لكنها ليست كذلك. هناك الجدة والأم والجد والأب والأطفال. وحين نسأل خالد عن سبب حزن الملامح يقول إن عائلته المجتمعة هنا، لم تلتئم يوما، وإنه رسم تمنياته التي لم تتحقق. لذلك ربط الفنان أفراد أسرته بشريط يشبه سلكا تليفونيا، كي يبقى الاتصال بين الذين فرقهم الزمن حاضرا ولو إلكترونيا. قادر عطية فرنسي - جزائري، يجعلك تقف في غرفة يتوسطها عمود طويل يلتف حول نفسه وهو غارق بالدماء التي تبقى تسيل عليه لتصل إلى الأرض وتشكل بقعة في محيطه. «يجسد هذا الدفق المتواصل دورة الحياة الأبدية وكونية الموت» بحسب الفنان. وهي فكرة لا تخلو من التعبير عن عنف حياتي لا يتوقف. من أكثر الأعمال لفتا للنظر في هذا القسم من المعرض ذاك الخاص بالعراقي عادل عابدين. ممر ضيق تسمع وأنت تعبره أغنيات عسكرية كانت شائعة أيام حزب البعث، بوصولك إلى صالة مزودة بثلاث شاشات كبيرة، تبدأ تطل عليك بالتتالي ثلاث فتيات يغنين بأسلوب الكباريهات، من كل شاشة فتاة تطل بدورها لتغني إحدى تلك الأغاني البعثية. المفارقة بين الشكل الأوروبي ذي الشعر الأشقر والأغنية الخارجة من فم كل فتاة، تبعث على الضحك والاستغراب. إنها «البروباغندا» الدعائية التي يريد أن يعبر عنها هذا العراقي مظهرا التناقض بين المبنى والمعنى الثوريين كما عاشهما في عراق صدام.

تدلف من هذا القسم الذي يضم أعمالا لسبعة فنانين إلى جزء آخر من المعرض ذي المفاجآت المتواصلة. قسم يحاول استشراف المستقبل تحت اسم «مخفي». الفنانة المصرية المعروفة لارا بلدي أقامت ضريحا هائلا من الحجر هنا، تستطيع أن تزوره لتكتشف داخله ما يشبه الموزاييك الدائري المشغول بعناية، لكنك بالتدقيق تكتشف أنك أمام قطع كبيرة من الدانتيل عليها عدد كبير من صور لفناجين قهوة تركية، صورتها ببلدي ووضعتها هنا. يخبرنا سام بردويل أن الفنانة، صورت الفناجين التي احتساها من زاروا والدها في فترة مرضه التي سبقت موته، وشكلت منها هذا العمل، معتبرة أن فقيدها سيبقى حاضرا أبدا في حياتها. ومن الأعمال الجميلة أيضا ذاك الذي يقدمه المغربي يونس رحمون. وهنا ندخل في قبة ترتفع عاليا، وقد علق في سقفها الفنان 77 منحوتة زجاجية على شكل أزهار صغيرة مضاءة تمثل 77 شعبة للإسلام. هذا المنحى الصوفي داخل الشكل الهرمي المثمن الأضلاع، يجعل الواقف فيه يشعر بمهابة، خاصة أن الجدران عبارة عن مرايا. نترك صوفية المغرب إلى فجاجة الواقع اللبناني الذي تمثله لمياء جريج بصور أرشيفية لبيروت القديمة، ومن ثم فيلم فيديو بطيء للغاية تحتاج أن تتأمله لما يقارب الساعة كي ترى بيروت تغرق في البحر، وتغوص فيه حتى تختفي. رؤية تشاؤمية تختلف في أسلوبها عن تلك خفيفة الظل التي يقدمها خليل رباح، حيث جسم باخرة أو على الأصح، حاملة طائرات وقد نبتت عليها المزروعات واكتست بالخضرة وكأنها أرض زراعية خصبة. حاملة الطائرات/المزرعة تطفو على لوح زجاجي يمثل البحر. فكرة خلاقة للاحتجاج على سرقة الأرض ومحاصرة تصدير الطماطم والفريز، من قطاع غزة. فإلى جانب حاملة الطائرات وضع الفنان برادا فيه المنتوجات التي يراد تصديرها من القطاع، ليأخذها الزائر. استبدال الأرض بقطعة عسكرية عائمة، سخرية موجعة لفنان فلسطيني متألم.

في القسم الأخير الذي يصور «المعاد»، تلفت النظر المصرية آمال قناوي، بغرفة جدرانها الأربعة مشيدة من نحو 100 عبوة غاز، عوضا عن الطوب، فيما تشاهد على أرضية الغرفة انعكاسا لصورة الشارع التي تتدحرج عليه أنبوبة غاز. العمل يشير إلى تداعي الهندسة المعمارية في مصر التي تقارب الانفجار. وعلى مقربة من هذه الحجرة الانفجارية يعرض الفلسطيني ستيف سابيلا في غرفة خاصة صورة لفلسطيني يقف في مواجهة ست صور لستة إسرائيليين على الحائط المقابل. هذه المواجهة بالصور لأشخاص كلهم عراة الصدور، تمثل نسبة الفلسطينيين التي لا تتجاوز شخصا واحدا مقابل كل ستة أشخاص من اليهود، داخل إسرائيل. من التجهيزات الظريفة التي تعود لتروي الحاضر من جديد هو ذاك الذي تراه للفنانة بثينة علي وهو مكون من 22 مقلاعا من الإسمنت يتراوح ارتفاعها بين 77 و200 سم، المقاليع مضاءة في غرفة معتمة، كما أنها مختلفة الأحجام، فيما الجزء المطاطي لكل منها مسحوب إلى الخلف بدرجة توتر متفاوتة. بحيث يعكس شكل كل مقلاع وحجمه نسبة الهجرة القسرية في كل بلد، ومدى قسوة هذا الوطن في قذف أبنائه إلى الخارج.

من الصعب أن نتحدث هنا عن أعمال كل الفنانين المشاركين، لكن هذا المعرض يكاد يتكامل مع معرض «مداخلات» الذي يقام إلى جانبه ويشارك فيه ستة من التشكيليين الرواد الذين كان لهم تأثيرهم على الحركة التشكيلية في بلدانهم، وهم: حسن شريف، إبراهيم الصلحي، أحمد نوار، فريد بلكاهية وضياء العزاوي. وحين نسأل هذا الأخير عن رأيه في احتضان قطر للفن الحديث، وإقامتها لهذين المعرضين المكلفين، يقول: «أنا لا أعرف بلدا عربيا أو غربيا، طرح على فنانين تشكيليين تمويلهم بهذا السخاء، قائلا لهم دون شروط، ما هو المشروع الذي تحتاجون تمويله وما هي كلفته لأدفع لكم؟ إنها حالة ليس لها مثيل في منطقتنا، وأقول أيضا وأنا مقيم في لندن وأعرف عما أتحدث، إن الدول الغربية، لا تعامل الفنانين بهذا السخاء الذي عرفته هنا في قطر».

يبقى أن معرض «محكي مخفي معاد» على جمالية معروضاته، فإن اسمه يفتقد للجاذبية التي هو في أمس الحاجة إليها ليتمكن من جذب جمهور غير معتاد على الفن الحديث. فالاسم ترجمة غير موفقة لعبارة إنجليزية، تعني ربما الكثير لأصحابها في لغتهم، لكن عند نقلها إلى لغة الضاد فقدت معناها، وجعلت الصحافيين الآتين لاكتشاف المعروضات، يتساءلون عن معنى الاسم، حتى ظن بعضهم وهو يجتهد أنه اسم لعمل تمثيلي أو غنائي.