في جدة.. ماء المطر غرس لبذرة الهلع

يعمم الفرح بمناطق المملكة ويستثنيها

سيارة مواطن وقد جرفتها سيول الأمطار («الشرق الأوسط»)
TT

لا تسطر هذه القصة كناية عن سفسطة تجد الصحافة غنى عن تدوينها سردا وعقدة وشخوصا، ذلك رغم ما احتواها من صهر الطريف والغريب والمحزن، فبينما لقي إجماع نزلاء هذا الكوكب منذ الأزل – عدا المستنكفين من آل نوح وآل هود - من أن غياب المطر شر، سنت صلاة تدفعه استجلابا واسترحاما، لقي ذلك الإجماع اعتراضا وامتناعا من جدة، بلدة وساكنين.

ودون كل ما لا يعيش الإنسان من دونه طيلة حياته من مطعم ومشرب وملبس ومسكن، ظفر المطر باسم الغيث لتفرده من الله - عز وجل - بشرف غياث المحتاجين وأمل المستغيثين. مع ذلك، لا يجد أهل المدينة الممتدة على الساحل الشرقي من البحر الأحمر في المطر أي شكل من الغياث، فالمطر بالنسبة لهم يكتب أقسى المقالات التي يقرأون من خلالها فسادا اعتبره البعض في سلوكه، بينما حصره آخرون في إدارتهم لمدينتهم.

المطر في تعريف سكان المملكة في الشمال والجنوب والشرق والغرب، مناسبة جديرة بأحسن الاستقبالات، فهو ضيف ينادى ويحل، تستعد له البيوت والمزارع والملاعب والمراتع، يفرح به الطفل الضعيف البريء قبل الكبير القوي العارف.

يأتي المطر فيجعل كل ربوع المملكة متنزها مغريا للقاء واللعب والسمر، فضلا عن الحب، فمصائف الباحة والطائف وأبها ما كانت لتحتل تلك المكانة الرائدة لولا أمطارها المستمرة الانهمار، وفي الرياض يشعل موسم المطر ليالي من السمر في الثمامة، وأهالي المناطق الشرقية من البلاد يحيون صحراءهم التي تخضر أجزاء منها استجابة لنداء المطر.

إلا أن الغيث لا يجود فيما لو هما هنا في جدة، فهي كما يبدو استثقلت وفود الغيم، فضلا عن المطر وارتضت على أثر ضيقها من ذلك قدرا مختلفا، فهم يستعدون قبله فيما يشبه استقبالهم بياتا شتويا، ويختبئون أثناءه وكأن صاعقة تنتظرهم، ويعزي أو يهني بعضهم بعضا بعده بالمفقودات أو بالسلامة.

هذا الخوف والرعب طال الأجهزة الرسمية في الدولة، فضلا عن الناس، فتوقعات نزول أمطار أجلت فرحة 7000 شاب من خريجي جامعة الملك عبد العزيز بجدة لأجل غير مسمى كما ذكر ذلك لـ«الشرق الأوسط» الدكتور هيثم زكائي، المتحدث باسم الجامعة.

ذات توقعات نزول المطر دفعت أيضا مدارس جدة لمنح طلابها وطالباتها إجازة، لأجل ظهور الشمس في كبد السماء، فالجو اللاهب الساخن والشمس الساطعة اللاسعة شرطان لإتمام اليوم الدراسي بكل نشاط وجد واجتهاد هنا.

المخاوف تسربت من جدة إلى محبيها وزائريها، فهم يسارعون لإلغاء حجوزات الطيران والوحدات السكنية في جدة بمجرد بث وسائل الإعلام عن مصلحة الأرصاد وحماية البيئة السعودية وإدارة الدفاع المدني أي تحذيرات جوية تتعلق بهطول الأمطار.

كما انتقلت هالة الفزع أحيانا إلى أجزاء متفرقة من المملكة، فالخوف دب في قلوب سكان المناطق جنوب غربي السعودية، وذلك بعد بث تحذيرات عبر مواقع إنترنت في أغسطس (آب) من العام الماضي من هطول أمطار غزيرة ستتحول إلى فيضانات، خاصة في منطقتي جازان وعسير.

وفي الليث، الواقعة غرب البلاد، أدت الأمطار التي شهدتها في الأسابيع الماضية إلى دمج المدارس، بسبب إغلاق الطرق المؤدية لكثير منها.

وحول الاستثناء الذي يطال جدة بموسم الأمطار كل عام أوضح الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، لـ«الشرق الأوسط»، أن مشكلة جدة مع الأمطار والسيول مرتبطة بانتهاء مشروع تصريف المياه ومشروع الصرف الصحي بالمدينة، وأن هذه المشاريع تأخذ عدة سنوات.

وفي جدة، وبين قاطنيها، يتساءل الكثيرون عن السبب الذي أدى لتأزم علاقة أهالي جدة بالمطر والذي بدل زغاريد نسائهم وأهازيج صبيانهم احتفالا بهطوله إلى رجاءات تنطلق بعكس اتجاهه «نحونا ولا علينا واللهم سلم سلم»، كما يسألون كيف تحولت تلك القبلة التي تهديها السماء لأركان الأرض، وفي جدة فقط، إلى لدغة شديدة الأثر، وسريعة في تعميم السم ونشر الألم.

الدكتورة سميرة الغامدي، الاستشارية النفسية تحدثت لـ«الشرق الأوسط» عن المصل المخصص الذي قد يبطل مفعول ذلك السم بقلوب الجداويين التي سرعان ما تهلع من انهمار المطر، قائلة: «إن على الأهالي توعية أبنائهم وبناتهم حول الكوارث الاجتماعية التي قد تحدث على أي بقعة من العالم، كتسونامي وفيضانات باكستان وزلزال هاييتي مؤخرا، كما أنها تكررت في المملكة في الفترة الماضية في جدة والعيص».

وبينت الدكتورة من خلال رصدها، أن المطر في جدة لم يعد يشكل مناسبة فرحة كما كان في السابق أبدا، مع أن طقس المدينة حار أغلب فترات العام، إذ يجدر بهم أن يظهروا سرورهم بالأمطار التي تضفي على الأجواء نسمة باردة. وبينما توقعت جمعية الطب النفسي في السعودية عودة الأمراض النفسية المرتبطة بوقت وقوع كارثة سيول جدة مع قرب حلول مواسم الأمطار على مدينة جدة، وحول تصرفات الأهل أوقات المطر، أضافت الاستشارية النفسية: «عدد من الآباء يهرعون لإخراج أبنائهم وبناتهم من المدرسة بمجرد تلبد السماء بالغيم، وآخرون يتعمدون إخراجهم لمشاهدة السيول التي تجرف ما أمامها، بينما المفروض إعطاؤهم صورة واقعية عن المطر الذي يعمم الفرحة في قلوب الناس».

وأضافت: «حوادث السيول أتت على جدة منذ أربعين عاما، لكن ليس ثمة إعلام أو إشاعات تروع الناس منها وتشوه العلاقة بين الناس والأمطار». كما اقترحت الدكتورة سميرة عمل دورات للطلاب والطالبات، في المدارس وذلك للتوعية بكيفية التعامل مع مثل تلك الأحداث، خاصة بعد التغيرات المناخية الأخيرة وثقب الأوزون.

وقد توقعت جمعية الطب النفسي في السعودية عودة الأمراض النفسية المرتبطة بوقت وقوع كارثة سيول جدة مع قرب حلول موسم الأمطار على مدينة جدة، خصوصا بين سكان الأحياء التي شهدت الضرر الأكبر.

محمد إسماعيل، أحد سكان حي قويزة أكثر أحياء جدة تضررا جراء كارثة السيول التي شهدتها جدة أواخر عام 2009، ذكر لـ«الشرق الأوسط» أن الأسر التي تقطن حيه وضح عليها الارتياع عند التغيرات التي ظهرت على السماء في الأمطار التي هطلت في جدة قبل أسبوعين.

وأضاف: «قبل الأمطار، أخذ كبار السن في الحي يوجهوننا خلال الصلوات للتحصن في المنازل وعدم الخروج منها، خوفا من تكرار مشاهد الخسائر التي يتذكرها سكان الحي جميعا».

وأوضح محمد إسماعيل أنه لم يتمكن يوم المطر من الخروج إلى عمله بسبب انتشار المستنقعات في شوارع وممرات الحي، بينما تسبب المطر بتشققات في سفلتة شوارع الحي الواقع شرق طريق الحرمين. كما أوضح أن الكثير من سكان الحي غادروه إلى أحياء مجاورة قائلا: «قبل المطر أخذت أهلي لمنزل أخي الواقع بحي الجامعة».

وذكر إسماعيل أن دوريات الأمن انتشرت بشكل كبير في الحي قبل المطر ومنعت الجميع من الدخول إلى الحي، إلا أنها، والحديث لإسماعيل، «اختفت بمجرد هطول الأمطار». وأضاف: «وجدت مجموعة من سيارات الدفاع المدني أثناء هطول الأمطار».

من جهته، أشار الشيخ الدكتور سهيل بن محمد قاسم، إمام وخطيب جامع القمقمجي بالمدينة المنورة، إلى أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يتغير وجهه إذا ما لاحظ تغيرا بالجو، فيما يفرح بقية الناس به، وكان عليه الصلاة والسلام يتساءل: «وما يؤمنني أنها ريح كريح عاد»، ثم إذا ما أمطرت السماء سري عنه واستبشر بكشف رأسه وقوله إنه ماء قريب عهد بسماء.

وأضاف: «يجب التوسط في فهم هطول الأمطار وما تسببه ولذا سن أن يقول الإنسان في حال تغير الأجواء وفي هطول المطر (اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب)، مازجا بين كلا المفهومين كل منها بالقدر المعقول».

ودعا إمام وخطيب مسجد القمقمجي بالمدينة المنورة، لعدم الإفراط بالفرح عند نزول المطر بحجة أن الإنسان لا يعرف النهاية التي يؤول إليها. وأضاف: «الحوادث التي يقدرها الله مهما كانت فهي تذكير والمهم أن يجمع الإنسان بين الحيطة والأمل، ولا يأمن مكر الله تبارك وتعالى».

وحول الهلع الذي يصيب الناس بسبب المطر، أشار الشيخ الدكتور سهيل إلى أن هذا الخوف نسبي يختلف حسب حال الإنسان، فالفقير الذي لا يأمن على بيته وأهله من الهلاك، يجد قدرا من الخوف أكبر من ذلك الذي يكون لدى غيره، ممن يسكنون المنازل والبيوت الفارهة الآمنة».

بدوره، نفى عبد الصمد محمد عبد الصمد، عمدة حارة الشام، إحدى أقدم حارات عروس البحر الأحمر، أن يكون الخوف والهلع من الأمطار سجية خص بها أهل جدة، لأنهم حسب قوله، كانوا في يوم من الأيام يهنئون بعضهم بقدومه بقولهم «آنستكم الرحمة، وآنست الجميع» كما كانوا يرددون الأهازيج الراقية احتفاء بالمطر كقولهم: «يا مطرة حطي حطي.. على قريعة بنت أختي.. بنت أختي جابت ولد.. سمتوا عبد الصمد».

وأضاف العمدة عبد الصمد: «الأمطار التي كانت تنهمر في السابق شبيهة بأمطار هذه الأيام في كميتها ووقت هطولها، لكن الفرق أن أمطار جدة التي لم تكن تتجاوز سورها كانت تتسرب وتغيب بعد دقائق بفعل وسائل التصريف التي لم توفر في المناطق خارج السور».

ونوه العمدة عبد الصمد محمد عبد الصمد بالدور الذي قامت به الأمانة في الأنحاء المختلفة من أحياء جدة، على الرغم من قوله إنها لم تحسب حساب الأمطار التي قد تهطل على المدينة لسبب أعتبره منطقيا وهو أنها نادرة وقليلة وتهطل في أوقات متباعدة.

تلك الأمطار التي باتت تثير الاضطرابات في أحياء المدينة، ذكر الدكتور علي عشقي، أستاذ علم البيئة بجامعة الملك عبد العزيز، أنها تتكون بفعل التقاء الرياح الشمالية الباردة، بالحارة القادمة من أفريقيا جنوبا، وقد تتشكل أحيانا من شرق حوض البحر الأبيض المتوسط. وأضاف: «نعم قد تهطل الأمطار في الغرب أحيانا أكثر من المناطق الوسطى وقد يحصل العكس».

ونفى أستاذ البيئة ما يثير رعب ومخاوف الناس من أن التغير المناخي العالمي أو ثقب الأوزون يحملان تأثيرات خطيرة على المنطقة، وقال: «يطول شرح هذا المسألة، إذ إن انفجارات تحدث في سطح الشمس تؤثر بشكل ما على درجة ارتفاع درجة الغلاف كل 11 عاما».

وبين الدكتور علي خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن الأمطار التي تثير مخاوف أهالي جدة، تأتي من أرض مدينتهم لا من سمائها، مشيرا إلى أن الأمطار هطلت ولا تزال تهطل على أرجاء وأركان مختلفة من هذا الكوكب.

وأضاف عشقي: «بنية جدة التحتية لا تتحمل استقبال الأمطار، لذا أشبهها بقطعة إسفنج مشبعة بالمياه، وأي هطول مطر يظهر سوءها بشكل مباشر، ففي أنحاء مختلفة تهطل الأمطار طيلة اليوم والليلة دون أن توجد السيول الجارفة التي تعطل الطرقات وتوقف الأعمال».

إلى ذلك، أعلن مؤخرا الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز، أمير منطقة مكة المكرمة، عن خطة شاملة لتطوير شرق جدة، قدرت أمانة جدة تكلفتها الإجمالية بنحو 652 مليون ريال، كاشفا عن تعويضات ستمنحها الحكومة لمن لا يملكون صكوكا في تلك المنطقة، متمثلة في 625 مترا مربعا من الأراضي تمنح لهم مجانا بعد التطوير، وبنصف تكلفة المتر بسعر السوق لمن يريد أن يصل إلى 900 متر مربع، وما تبقى من الأرض (في حال اتساعها عن 900 متر مربع) سيكون بتكلفة سعر السوق نفسها في ذلك الوقت.

وكانت وزارة المياه والكهرباء قد انتهت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بشكل كامل من تجفيف بحيرة الصرف الصحي المعروفة ببحيرة المسك، شرق مدينة جدة، التي شكلت قلقا كبيرا لأهالي المدينة، وذلك قبل الموعد المحدد للانتهاء من تجفيفها، وخلال 3 أشهر وهي تعد ربع المدة التي حددت للمشروع، حيث يجري الترتيب لإعادة تسليمها للأمانة خلال شهرين من الآن، بعد الانتهاء من سحب الحمأة.

بل أعلن في جدة عن زراعة غابة شرق المدينة في نفس مكان البحيرة، وتحتوي على 160 ألف شجرة، على مساحة مليوني متر مربع، بتكلفة 30 مليون ريال.

يذكر أن مدينة جدة شهدت في الخامس والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) 2009 هطول أمطار معتادة بلغ متوسط كميتها 72.5 حسب الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة، كارثة السيول التي قضى على أثرها 123 شخصا.

كما خلفت خسائر مادية كبيرة في الممتلكات الخاصة والمنشآت والمرافق العامة بما فيها أكثر من 25 ألف سيارة، تلفت أو تعرض بعض أجزائها للتلف، فضلا عن 350 مصابا عولجوا لاحقا، وذلك في المدينة التي يسكنها 3 ملايين نسمة.

وتلافيا لذلك يؤكد مصدر لـ«الشرق الأوسط» بقوله: «يجري حاليا تنفيذ مشاريع جديدة تكمن في تشييد 3 سدود في وادي القوس، وسدين آخرين في وادي مثوب، إلى جانب إكمال القنوات المقترحة في وادي غليل»، بينما لا يمكن التنبؤ في الوقت الحالي بما ستؤول إليه الأمور في الأيام المقبلة في جدة بعد أن توقعت الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة الثلاثاء الماضي هطول أمطار رعدية على مناطق مختلفة من المملكة ستشمل جدة ابتداء من اليوم وحتى 17 يناير (كانون الثاني) 2011 الحالي.