مسرح الطفل في البلقان: انفتاح على الفضاءات الأسرية والمدرسية

اتسم بإعطاء طابع فكاهي لمراسم الزواج وملامسة الدين بعاطفة جياشة

يبرز مسرح الطفل المواهب وينمي فيه دقة الملاحظة من خلال التعرض لمشاهدات الطفل وتقديمها في قالب مسرحي («الشرق الأوسط»)
TT

يولد الأطفال على الفطرة، يولد الأطفال فلاسفة، شقاوة الأطفال أطهر من براءة الكبار، مقولات وقراءات كثيرة تدورحول الطفل، لكن ما الذي يقوله الطفل فيما يدور حوله، وهو المزكى دينيا وفلسفيا واجتماعيا. مسرح الطفل في البلقان، ولا سيما في البوسنة يحاول تقديم رأي الطفل، أو ملاحظاته، وقراءاته، وحتى سخريته من محيطه الأقرب، الأسرة ، والمدرسة، والأوضاع الاجتماعية، كما يلامس الدين بعاطفة جياشة، وما علق في ذاكرة الطفولة من مواقف تخص الشعائر. ويقول الدكتور فخر الدين برانكوفيتش» للشرق الأوسط « «يولد الأطفال على الفطرة، لذلك هم فلاسفة «ويتابع» الفطرة تعني الفكرة، والفكرة تعني السؤال، والسؤال ينتج عن حب المعرفة، أوالجهل بالشئ، ولذلك يقال لشخص ليس لديه خبرة، أو طيب أكثر من اللازم ، أو لديه قابلية ليتشكل حسب تأطير الآخرين له، هو على الفطرة». ويرى الدكتوربرانكوفيتش أن» مسرح الطفل يبرز المواهب، وينمي في الطفل دقة الملاحظة من خلال التعرض لمشاهدات الطفل وتقديمها في قالب مسرحي».

مسرحيات كثيرة قدمها الأطفال في البلقان، من تأليفهم، لم تترك شاردة أو ورادة إلا وتناولتها. ومنها ما يهز العواطف ويدفع للبكاء، كإحدى المسرحيات التي شاهدتها «الشرق الأوسط» في المدة الأخيرة، عن طفل يذهب للمدرسة في ثياب رثة، بينما زملاؤه يرفلون في الحلل الجديدة، فيعود ليقص ذلك لأمه، وهو يبكي، ويطلب منها عدم الذهاب للمدرسة، وهي تحاول أن تقنعه بأن أوضاعهم المادية الأسرية لا تسمح لهم بتلبية ما يطلبه» ثم يطرح الطفل أسئلته، لماذا لا يوجد لدى والده ووالدته أموال مثل الآخرين، ولماذا لدى الآخرين أموال وأسرته فقيرة، وهل السعادة حكر على أطفال دون آخرين» في نفس المسرحية التي تحمل اسما ساخرا «السعداء» في تذكير ب»البؤساء» لفيكتورهيغو» يشاهد أطفال فقراء من خلال تلفزيونات بالأبيض والأسود، وهي تعبيرعن النظرة العامة للعالم، مشاهير وغيرهم يوزعون مساعدات على أطفال فقراء في دول مختلفة من العالم، ويبرز السؤال البرئ، لماذا لا يأتون إلينا يا أمي، فتجيب الام، لأن الطرق إلى بلدتنا ليس فيها كاميرات تصوير، وتجيب أخرى، يخشون على سياراتهم من طرقنا غير المعبدة، وتقول ثالثة، الدعاية تكلفهم كثيرا إذا قدموا إلينا يا بني، ويستمر السؤال، لماذا لا نذهب نحن إلى هناك، وتجيب الأم ، ليس لدينا مال لنرحل، وليس لدينا قرابة مع من ينظمون تلك الأعمال. لا يتسم مسرح الطفل كله في البلقان بالسوداوية، فهناك مسرحيات تتناول طرفا من حياة الأسرة، مثل محاولات الأم، إقناع الطفل بالنهوض من الفراش، والتعليق على الأكلات المقدمة، وحتى الخصومات بين الآباء والأمهات، سجلها الأطفال بقالب فكاهي، بل نجد الأبناء يتوافقون على إشعال أسباب الخصام بين الآباء والأمهات من أجل أن يضحكوا، ويبدو أن الوالدين يدركون ذلك، فيتظاهرون بالخصومة ليضحك أبناؤهم. ويقول المسرحي نرمين أحميداغيتش «للشرق الأوسط «: الاستجابة لطلبات الأطفال الموضوعية، تمنحهم السعادة، والإجابة على أسئلتهم تحميهم من التبلد الذهني» وتابع «الأطفال لا يملون من طرح الأسئلة، وقد شجعناهم على تسجيل ما يدور في محيطهم بما في ذلك ما يشاهدونه في التلفزيون، وفي المدرسة، فهناك تعليقات ناقدة لبعض أساتذتهم، والتي تتقبل كرأي الطرف المعني في العملية التعليمية ومن يقوم بها، فالعملية التعليمية ليست تلقينا فحسب بل تفاعل بين جميع الأطراف ولا سيما الهدف وهم الأطفال، الذين يمثلون الطرف الفاعل في العملية التعليمية ومصدرالإلهام البيداغوجي، وليس مصدر التلقي فحسب».

لقد وصل مسرح الطفل في البلقان، إلى مستوى متقدم من نقد المعلمين والاساتذة، ولا سيما الجانب السلوكي، مما يحرج الكثير من المعلمين والأساتذة، ويلفت انتباههم إلى أخطائهم السلوكية سواء داخل الفصول، أو خارجها، فكثير من المسرحيات تناولت مشاهدات أساتذتهم في المقاهي والأماكن العامة.» شكسبير قال أعطني مسرحا أعطيك شعبا عظيما، والمسرح هو الذي يبصر الساسة والناس بأخطائهم، وهنا نتذكر مقولة عمر بن خطاب، أحب الناس إلى من أهدى إلي عيوبي، ولكن الساسة وكثير من الناس لا يحبون سوى من يغذي نرجسيتهم، وقد يكون نقد الأطفال أخف وقعا وأكثر تأثيرا لذلك يعول عليهم في تغيير الكثير من الأوضاع في محيطهم، فهم نصف الحاضر وكل المستقبل».

ولم تكن البيئة المدرسية والمنزلية فقط، ما يميز مسرح الطفل في البلقان، بل اتسم أيضا بإعطاء طابع فكاهي، لمراسيم الزواج، والحج التي حضرها الأطفال، وإن كانت بمشاعر روحية فياضة.

في مسرحية «عقد زواج» يأتي خبر وفاة أحد الجيران بينما الإمام يعقد قران زواج، مما يحتم إقامة العرس بدون مظاهرالفرح العامة. وقبل عقد الزواج يسأل الإمام عن الموانع الشرعية، كالرضاعة، فتقول الشاهدة «نعم رضعا من بقرة واحدة يا سيدي الإمام ( المأذون الشرعي ) وهنا ينفجر جميع الحضور بالضحط تلقائيا، ويقطع ضحكم ( الإمام ) ضحك الجمهور بتصحيح السؤال، بأن المقصود الرضاعة من إحدى أمي الزوجين خمسة رضعات مشبعات. وهكذا نجد مسرح الطفل الديني، يعتمد أسلوبا بيداغوجيا مبتكرا وهو المسرح لتثبيت الحدود الشرعية في أذهان الأطفال بطريقة غير مملة، وغير فجة ومباشرة، بل ومحببة للنفوس، فعندما يكرر (الإمام) سؤال العرض والقبول على العروس، تجيبه ،»ألم تصدقني من الإجابة الأولى» وهنا ينفجر المسرح بالضحك. ويجيب الإمام بجد حتى لا يصبح الأمر الجاد أضحوكة، «لا ولكن هذا شرط لتأكيد العقد فالأمر جد وليس بالهزل»، بما يعني إعادة الوعي للمتلق وهو المتفرج. رسالة مسرح الطفل الديني تبلغ ذروتها في المسرحية، عندما يسأل الإمام العروسعن المهر الذي تطلبه، فتقول «الحج» وهنا تتدخل تجد الابتسامة طريقها للجمهور بطريقة بيداغوجية أيضا، عندما يسأل العريس» هل تريدين الحج بالطائرة أو أم بالحافلة « وتجيب العروس في مماحكة «بالباخرة «. كما تدافع العروس عن لقبها، الذي لم يجد من يدافع عنه في الغرب، فتفد المرأة لقبها لتنتسب للقب زوجها. وتحضر الابتسامة مرة أخرى عندما يغرق الجميع في البحث عن قلم لأن القلم المستعمل لا يكتب. ومن الزواج إلى الحج، حيث يسجل الأطفال تفاصيل ما يدور بين أبائهم وأمهاتهم أو أجدادهم وجداتهم من أحاديث حول الحج. وقد سجلت « الشرق الأوسط « هذا الحوار:

* الحمد لله الذي متعنا بالصحة ورزقنا المال الذي نستعين به على أمور ديننا ودنيانا يا زينب.

** نعم يا زوجي العزيز هناك أناس ليس لديهم ما يأكلون، ويشتاقون للحج وليس معهم مال

* الحمد لله إننا جمعنا مالا حلال لم تشوبه شائبة الحرام.

** لذلك بارك الله في صحتك ومالك

* والفضل بعد الله يعود إليك يا زوجتي العزيزة ثم يدخل الإمام ، وتبدأ أسئلة الحج، كما تتطرق لأمور تتعلق بالصلاة، وجمع المال، وحق الزكاة والصدقة. ويؤكد ( الإمام ) أن «جميع العبادات في الإسلام جماعية في الدنيا، يتحمل المسؤولية عنها فرديا في الآخرة» وهو عسكس الخطأ السائد في حياة الناس، فمعنى العبادة بين العبد وربه، تعني النية والحساب، وليس أدائها بشكل فردي، فالصلاة وإن كان يمكن أداؤها بشكل فردي في الحالات الاستثناية، إلا أن الأصل أداؤها جماعة في المسجد، ويقرأ الجميع، إياك نعبد وإياك نستعين، وليس إياك أعبد وإياك أستعين، والحج لا يمكن أداؤه بشكل فردي، والزكاة لها مواسم، ويقوم على جمعها بشكل جماعي من قبل السلطات في الأصل، وهكذا جميع العبادات والمسؤوليات الأخرى في الاسلام جماعية مما يعني أن الاسلام دين دولة ومجتمع وليس مسألة شخصية. كل هذه الأعمال، يقوم بها الأطفال، كتابة وتمثيلا، ودور الكادر التربوي، هو إضافة عامل الخبرة، والإشراف على البروفات، ووضع الفصول، والمساعدة في اختيار اللباس. الأمر الملاحظ في العديد من المسرحيات التي يقدمها الأطفال في البلقان، هو ارتداء الممثلين للملابس التقليدية، وليس الملابس التي يرتدونها في سائر أيام السنة عموما، مما يؤكد على وجود رسالة خفية، ذات مدلول ثقافي عميق، فالايديولوجيات تأتي وتذهب، وتبقى التقاليد الراسخة والأديان.