بهلوانة لبنانية تسعى لرد الاعتبار لفن «التهريج»

باتريسيا حبشي: المهنة لم تلق الاعتراف على الرغم من أنها تمنحنا الحرية

باتريسيا حبشي تقدم أحد عروضها («الشرق الأوسط»)
TT

«أنصح كل إنسان بأن يحرر نفسه ويكتشف المهرج الذي في داخله»، هكذا تجيبك باتريسيا حبشي حين تسألها عن هدفها من إقامة ورشة عمل في بيروت تبدأ يوم 11 فبراير (شباط)، وتستمر لمدة ثلاثة أيام، تديرها هذه الفنانة المتخصصة في «فن التهريج» الذي لا يزال مهمشا في بلادنا.

باتريسيا تصر على أن للمهرج دوره في المجتمع. وفي لبنان بمقدوره أن يكون مفيدا جدا وفاعلا في الشارع أو في مستشفى وربما في مدرسة أو على خشبة مسرح.

وهي تعتبر أن شخصية المهرج «عفوية»، ولها تلقائية مدهشة. والمهرج ليس مجذوبا كما كنا نتصور عندما كنا صغارا، بل يمتلك من الذكاء ما يجعله ينمو ويتغير بتغير المجتمعات وتطورها. وهو ليس كئيبا كما يمكن أن يتصور البعض، وإنما يعشق التواجد مع الناس وبينهم، لذلك يستخدم الإضحاك وسيلة لتحبيب الناس فيه وتقريبهم إليه.

وتضيف باتريسيا: «المهرج لا يعرف لماذا يضحك الناس أمام حركاته وتصرفاته، ولكنه يفهم أن ضحكهم هو حب نحوه، لذلك كلما ضحكت منه ازداد قدرة على العطاء».

ما الذي سيتعلمه المتدربون في الورشة كي يكتشفوا المهرج الكامن فيهم، الذي طوته العادات الاجتماعية والضغط اليومي؟ تجيب باتريسيا: «سنعمل بشكل أساسي على المورفولوجيا وقدرة الإنسان على تطويع جسده وحركة مفاصله وتعابيره. الهدف هو أن ندفع بكل متدرب لأن يعطي أقصى ما عنده جسديا، معتمدين على أن داخل الإنسان لا بد أن يتبع الجسد ويلحق به. وكلما تعمق الإنسان في تطويع جسده، تمكن من الابتعاد عن الواقع، وذهب إلى مكان آخر أبعد غورا».

تتحدث باتريسيا كفيلسوفة أحيانا وكطفلة في أحيان أخرى، حبها للشارع دفعها لأن تلتحق بمدرسة «ساموفار» في فرنسا المتخصصة في تخريج المهرجين، بعد أن نالت شهادتها الجامعية في فن المسرح من الجامعة اليسوعية، ومن ثم حصلت على دبلوم الدراسات المعمقة في مجال «فن العروض» من «جامعة السوربون الثالثة». حلمها بأن تمارس عملها في الشوارع اللبنانية كما فعلت ذلك في فرنسا.

وتروي باتريسا: «ذات يوم كنت أقدم عرضا في الشارع، ثم سكنت للاستراحة إلى جانب متسولة معها طفل لا يتجاوز السنة الواحدة، واستفدت من لباسي البهلواني واللعبة التي كانت في يدي وجربت التسول إلى جانبها. وجدت نفسي بعد دقائق أضحك وألاعب طفل المتسولة، وبقينا هكذا ما يقارب الربع ساعة. بعد ذلك بأيام مررت بالقرب من المتسولة وطفلها، وكنت من دون أنفي الأحمر وألوان وجهي وشعري المستعار، فما كان من الطفل إلا أن نهض من مكانه مادا ذراعيه نحوي. حتى الآن لا أعرف كيف استطاع الطفل أن يتعرف علي بعد أن تبدل شكلي، لكنني أعرف أن فرحي بذلك كان غامرا. لهذا أحب دور المهرج وأحب الشارع أكثر من أي مكان آخر». وتعتبر باتريسيا أن البهلوان الذي يباغتك في الشارع، هو أشبه بهدية مفاجئة تهبط عليك من حيث لا تدري. والمهرجون يذهبون إلى الناس، لأن هذا في صميم مهماتهم، ولا يكتفون بالتماس مع تلك النخبة التي تأتي إلى المسرح.

كيف تصبح بهلوانا محبوبا؟ هذا هو ما تريد باتريسيا أن تعلمه للمتدربين معها خلال الأيام المقبلة. فالبهلوان يولد مع الناس وبينهم، ومن خلال التمرين الفعلي باحتكاكه بالآخرين، أما الانزواء وإعمال الخيال، فهذا لا يصنع المهرجين الناجحين.

شرحت باتريسيا للمتدربين منذ عدة أيام، وقبل بدء الورشة، أهمية انضمامهم إليها. وهي تشبه اللغة التي يستخدمها البهلوان سواء كان صامتا أو ناطقا، باللغة الموسيقية ونوتاتها. هذه النوتات التي يتعلمها المتدرب ويتمرن على استخدامها تخلق لديه طبيعة ثانية. وتشرح باتريسيا: «الأصل أن يكون المهرج عفويا، يتمتع بسهولة في التعاطي مع الآخرين، وردة فعله سريعة وكأنها نابعة من أعماقه. هذه البساطة لا تأتي إلا من العمل الجاد والقاسي جدا، بحيث يقتنع المتفرج بأن البهلوان ولد بهلوانا، وما يفعله هو جزء من طبيعته وليس تمثيلا. وهنا يكمن التحدي». «علينا ألا نستسهل الأمر» تضيف هذه البهلوانة العاشقة لمهنتها، «الذين عملت معهم تطلب احترافهم 20 سنة من الخبرة أو ما يزيد. وكل مهرج يبقى يكد ويتعلم ويتقاسم مع الآخرين تجاربهم حتى يصل إلى الابتكار الذاتي، وهذا هو هدف كل مهرج. فهي مهنة ليس فيها نجوم وأضواء وإنما انخراط مع الناس وتفاعل لا يتوقف».

في «مسرح مونو» يسعى المتدربون لأن يخرجوا عن نمطيتهم. كل يأتي لسبب مختلف، فهناك من تستهويهم هذه التدريبات، وممثلون أو موظفون عاديون، وربما أشخاص يشعرون بانطوائية ويريدون كسر حاجز الخجل. كل يأتي لغاية في نفسه، لكنهم بالتأكيد يتقاسمون الرغبة في الانعتاق والحرية، والبحث عن فضاء جديد يحلقون فيه على طريقتهم، وبالأسلوب الذي ستتمخض عنه مخيلتهم.

البهلوان له شخصية تناقض الادعاء، وعمله يتطلب منه أن يبذل جهودا مستمرة، لأن العوائق والتحديات التي تواجهه لإضحاك الناس لا تنتهي، وبالتالي فهو في محاولات لا تتوقف للتغلب على الصعاب. باتريسيا جربت هذا في شوارع فرنسا، وأثناء مشاركتها في مهرجان أفينيون، وكذلك في بولونيا ولبنان، وكتبت عملا مسرحيا، كما أنها تعمل حاليا على التحضير لعرض منفرد تقدمه في لبنان. وبالانتظار، فإن تدريب مهرجين لبنانيين سيكون المهمة الأصعب خلال الأيام المقبلة، في بلد لا يزال المهرجون فيه أصحاب مهنة لم تلق الاعتراف الذي تستحقه بعد.