ميدان التحرير.. «ديوان مظالم المصريين»

أمهات فقدن أبناءهن في المظاهرات.. وعمال يبحثون عن سبب فصلهم من العمل

TT

تحول ميدان التحرير مسرح ثورة الشباب المصرية بقلب العاصمة القاهرة إلى ديوان لمظالم المصريين. فقد استضافت أرصفة الميدان منذ اندلاع مظاهرات الغضب الاحتجاجية يوم 25 يناير (كانون الثاني) أناسا لا ينتمون لأحزاب ولا قوى سياسية، ولا يملكون إلا أملا في المستقبل، وهموما يبوحون بها في ساحة الميدان، كما أنهم نادرا ما يشاركون في هتافات المتظاهرين. وطوال الوقت تجدهم إما يحكون، أو صامتين يبحثون في وجوه القادمين للميدان عن نقطة ضوء، وكثيرا ما يستوقفون الناس لقص حكاياتهم.. أطباء وموظفون وعمال وربات بيوت.. اتفقوا على شيء واحد: إحساس بالظلم طالهم فشدوا الرحال إلى ميدان التحرير يبحثون عن حقوقهم.

أحمد عبد الفتاح.. (34 عاما) فني حاسب آلي، من القليوبية يحمل صور ضوئية لأوراقه الرسمية، من مؤهلاته، وسيرته الذاتية، وصورة عقد عمله الذي تم فصله منه من مجلس محلي أبو زعبل، ويضع كل هذا أمامه في نموذج الحديقة التي صممها في ميدان التحرير وبجوارها صور المسؤولين الذين قدم لهم استغاثات ليعيدوه للعمل أو ينصفوه.. يقول عبد الفتاح إنه يعمل بعقد مؤقت يجدد سنويا منذ 4 سنوات، ولم يدر ما السبب في فصله فحضر لميدان التحرير يبحث عن إجابة.

متلفعة بالسواد حدادا على ابنها الذي تلقى رصاصه في صدره يوم الجمعة 28 يناير( كانون الثاني) الماضي أثناء عودته من عمله، أتت سلوى السيد وهي عاملة نظافة لا ترغب إلا في فهم ما جرى لابنها والمطالبة بحقه، وهو الذي لم يكن مشاركا في المظاهرات وليس له في السياسة، قالت: «دفنت ولدي وهو عند ربنا لكني جئت إلى هنا لأخذ حقي بإيدي». تحكي الأم عن ابنها الأوسط الذي تولى الإنفاق عليها بعد أن مات والده وتزوج شقيقه الأكبر الذي لم يعد له صله بهم منذ وقت طويل، تغالبها دموعها، وتجلس قريبا من المستشفي الميداني، فهي لا تقوى على السير طويلا ولديها ما يكفي من أمراض، وترفض أن تذهب لمنزلها قبل أن يتحقق ما تريد.

يجلس الطبيب سامح فتحي وأولاده الثلاثة وسط الشارع ويرفع لافته تقول «نداء للنائب العام.. مصادرة أموال الفاسدين.. نداء شعب مصر». يتحدث فتحي عن تعرضه للظلم على مدار سنوات طويلة في عمله مما جعله يقرر الاستقالة من وزارة الصحة ليعمل في عيادته الخاصة فقط، وقد جاء إلى الميدان بعد أن تم توقيفه لأنه ملتح واقتيد إلى مقر أمن الدولة حيث تعرض للتعذيب.

وبغصة وقطرات دموع تتخفى في لحيته، لكنها تحميه من شعور قاس بغياب آدميته وهو في الميدان يخبر أبناءه أنه آن الأوان لنيل الحق في العيش الكريم من دون خوف من المستقبل أو عليه.. يقول: «جاءوا معي لكي يتعلموا أن للحرية ثمنا وأنها غالية».

«أم هاني»، سيدة في نهاية الخمسينات، تستند على عصا داخل الميدان وبجوارها أربعة من الشباب يلتحف أحدهم «بطانية»، وآخر يرفع لافتة، وثالث نائم، ورابع يراقب والدته التي لا تستطيع الوقوف، ويحضر لها كرسيا لتستريح، فتقول إن أولادها جميعا حصلوا على شهادات جامعية ومع هذا لم يحصل أي منهم على عمل. تتابع: «لم يستطيعوا الزواج ولا حتى إيجاد شقق ولو بالإيجار. ابنتي فقدت عينها بسبب خطأ طبيب ورفضت وزارة الصحة علاجها في مستشفياتها، وعندما حصلنا على قرار علاج على نفقة الدولة رفض المستشفى الذي خرج له القرار علاجها لأن القرار أقل من قيمة العملية»، وتكمل أنها كانت راضية بقدرها وقدر أولادها، لكن مع الأحداث الأخيرة عرفت كما قالت أن حقها وحق أولادها ضاع كثيرا ويجب أن تبحث عنه.

بهاء صابر (30 عاما)، متزوج ويعيش مع والدته، خريج جامعة ولم يجد عملا دائما حتى الآن، ويبحث عن شقيقه منذ 1998 وقدم بلاغات كثيرة للنائب العام والخارجية ولم يتم تقديم أي معلومة عن مصيره، وشقيقه الآخر تم اعتقاله أمام السواحل الليبية في 2001 حتى مارس (آذار) 2010، أثناء محاولته السفر إلى أوروبا للعمل بعد أن فقد أي أمل في إيجاد عمل في مصر، وأضاف أن والدته مريضة بأمراض الشيخوخة ودخلت في غيوبه منذ 4 أشهر بعد أن رفضت الحكومة أن تضيفها على قائمة العلاج على نفقة الدولة بحجة أن حالتها متأخرة، فوجد في ميدان التحرير أفضل مكان ليعبر فيه عن شكواه ومشكلاته أمام الجميع.

سميرة فرج (أم جمال)، سيدة في منتصف الستينات، تحمل طفلا في عامه الثاني على كتفها وفي يدها الأخرى صورة ابنتها (إيمان)، فهي من أسيوط توفيت ابنتها قبل عامين أثناء عملية ولادة قيصرية، فتقول إن ابنتها كانت تشعر بآلام الوضع ولكن طبيب الوحدة الصحية في قريتهم أخبرهم أنه ما زال الأمر مبكرا جدا على الوضع فذهبوا للبيت واشتد الألم، وعندما ذهبوا لمستشفى المدينة الحكومي وجد الأطباء ضرورة إجراء عملية ولكن لم تكن هناك أكياس دم كافية في المستشفى، وبعد ساعات من إجراء العملية وإخراج الجنين - الذي ما زال حيا - أغلق الأطباء الجرح، ونسوا أن هناك شريانا متهتكا وما زال مفتوحا، فتركوها في غرفة العناية المركزية من دون أن يكون أحد معها والنزف يشتد حتى فقدت دمها، وأضافت أن ابنتها توفيت بعد 48 ساعة، وتقدموا ببلاغ للنيابة العامة وللنيابة الإدارية وشكوى في نقابة الأطباء، كل هذا من دون أن يتحرك أحد أو أن يقدم الطبيب المسؤول ومدير المستشفى للمساءلة، فوجدت أن الميدان هو مكانها للمطالبة بالمسألة وفتح الملف من جديد.

فتحية، من محافظة قنا (جنوب الصعيد) قدمت للميدان تحمل صور ابنتها وأحفادها الذين توفوا في عبارة «السلام 98» عام 2006، فتقول إنها منذ 2006 وهي لم تجد أي أحد من المسؤولين يتحرك بعد أن تم الحكم على صاحب العبارة ومسؤولين كبار ومع هذا ما زال هؤلاء يستمتعون بالأموال التي جنوها من دم ضحايا مثل ابنتها وأولادها وغيرهم من دون أن يحاسبوا.

سعيد صابر، موظف أعمال كتابية في شركة النصر للإلكترونيات، جلس في خيمة بها أولاده وزوجته، وكتب عليها (فيلا ضحايا الخصخصة وأصحاب المعاش المبكر)، وقال إنه عمل لأكثر من 20 عاما في الشركة وعندما تم بيعها في 2003 لمستثمر أجنبي تم إجباره على الخروج من الشركة، وحصل على 50 ألف جنيه ذهبت على المصروفات والأطباء والعلاج وبعد عامين تقريبا وجد أنه وأسرته مهددون بالتشرد في الشارع فعمل في وظائف وأعمال لا توفر له ولا لأولاده الاحتياجات الأساسية، فقرر أن يحضر أسرته ويعيش مع الموجودين في الميدان.

شهاب حلمي، رجل أعمال في بداية الأربعينات لديه شركات في أميركا ودبي وولداه يملكان جنسية أميركية، لم يكن مشاركا في أي شيء سياسي ولم يكن له مطالب فهو يملك المال والشركات وتحت يده مئات الموظفين والعمال، وكان يستعد للهجرة إلى أميركا، لكن لحظة واحدة غيرت مسار مواقفه عندما خرج لا ليشارك في مظاهرات 28 يناير لكنه ليراقب ويرى ما يحدث، ورأى شابا يقتل بجواره برصاص الأمن، وسيدة في الخمسين يتم دهسها بالسيارة، فاعتبر أن هذا قد يكون خطأ من ضابط أو موقف عابر، واستمر أياما يذهب إلى ميدان التحرير ويعود لمنزله، لكن يوم الأربعاء 2 فبراير (شباط) كان التغيير الأكبر في موقفه عندما اصطحب زوجته وولديه ليقدم المأكولات والمياه والأدوية للمعتصمين، فاستوقفه أفراد من مؤيدي الرئيس مبارك وأخذوا منه كل شيء، بل رآهم وهم يمطرون المحتجين في الميدان بالحجارة والأعيرة النارية وكرات النار، فعندها قرر أن يمكث ولا يخرج من ميدان التحرير ويترك كل شيء ويعلن أنه لن يغادر مصر نهائيا.

شهاب قال إنه لم يكن يتخيل أنه كان مغيبا ولم يعرف بلده حق المعرفة طوال هذا الوقت، وأنه سيكون جانيا على ولديه لو غادر ولم يشارك في مثل هذا الحدث باعتباره كما قال وقت الحساب لكل شيء، وتذكر كيف كانت الأجهزة تفرض عليه ذهابا وإيابا ما سماها «إتاوات» من دون أي سند قانوني ولم يكن لديه قدرة على الاعتراض أو الرفض.

محمد.. (37 عاما) اختصاصي تمريض يقف ويرفع لافته «رسالة للشعب.. كنتوا فين من زمان لما دخلنا اللومان (السجن) وأبو زعبل كمان.. معتقل سياسي 11 سنة»، فقد كل شيء وخرج من السجن فوجد والده ووالدته قد توفيا، ولم يستطع أن يحصل على أي تعويض، حتى ميراثه في بيت العائلة أخذه أعمامه منه عنوة ورفضوا أن يعطوه شيئا، ورفضت جميع الجهات تشغيله لأنه يحمل لقب «معتقل سياسي»، فقرر الوجود لعله يعوض ولو قطرة، كما قال من المرارة التي في صدره تجاه كل شيء.