«شاي الجمر».. الكيف سلاح لمواجهة الفقر في حياة شباب عسير

قال بعضهم لـ «الشرق الأوسط»: ما نتقاضاه من بيعه نواجه به غلاء الأسعار ونعزز به تخطيطنا المالي

أباريق الشاي الصفراء والقابعة على النار المشتعلة باتت منظرا مألوفا في الآونة الأخيرة في عسير («الشرق الأوسط»)
TT

الثقافات السعودية جلها، في أي من اتجاهاتها، تتفرد بخصوصيات، سواء من حيث الموروث أو التفاصيل الدقيقة لبعض العادات والتقاليد، ومن النادر أن تشترك ثقافة منطقة على سبيل المثال في أقصى الشرق بما يقابلها في منطقة أخرى في الجنوب مثلا.

إلا أن ذاك التضاد في العادات، إن جاز التعبير، ينتفي عند الخروج لتلبية دعوة مثلا للخروج لإحدى صحاري المملكة، أو ما يطلق عليه في القاموس السعودي «الكشته»، فمن الأساسيات الضرورية، التي لن تكتمل بها تلك الرحلات، ما يطلق عليه «شاي الإبريق»، وهي الطريقة التي تتميز عن غيرها، منتجة أحد أهم أنواع المكيفات.

وللاستدلال فقط، فقد عُرف عن الشعب العراقي حبه للشاي، لدرجة تفردت بها بلاد ما بين النهرين بشاي فريد ليس له مثيل في جميع أنحاء المعمورة، ويأتي المصريون ثانيا في الحرص على تناول الشاي، وبطرق طهي فريدة. فـ«الكشتات» السعودية تتصف في نهاية المطاف، نوعا ما، بذات الصفات الخاصة بـ«كيف» شعوب عربية أخرى، من حيث طرق التفنن بطهي الشاي، خصوصا الذي يطهى بأباريق صينية الصنع، وبألوان منفردة عن غيرها، لا سيما أن أهم عوامل تميزه عن غيره من أنواع الشاي، ضرورة طهيه على «الجمر»، أو كما يسميه السعوديون «جمر الحطب»، الذي يضفي نكهة تتفرد عن غيرها من طرق طهي الشاي المتعارف عليها.

فوجود إبريق حاكته أيادي من هم في أقصى بقاع الأرض (الصينيون) بات مألوفا على مواقع إشعال النار في الرحلات البرية، ففي منطقة عسير، جنوب السعودية، مثلا، وفي الآونة الأخيرة، امتهن بعض الشباب السعودي صنع شاي الجمر، الذي يعزز بنكهة خاصة، ويضاف إليه بعض المأكولات الخفيفة الشعبية في تلك المنطقة، مثل «فطير التنور الشعبي» والبعض الآخر من أنواع الفطائر منزلية الصنع.

فإن كُتبت لك زيارة عسير، التي تعتبر أهم المناطق السعودية فيما يتعلق بالسياحة، لامتلاكها أجواء خاصة بها، تسندها هضاب ومرتفعات المنطقة، فمن الضروري أن ترى شبابا سعوديا على أحد أرصفة الشوارع الرابطة بين المحافظات، وبات يشكل لهم متنفسا وظيفيا، يواجهون من خلاله البطالة، ويعينهم على رفع درجات المسؤولية الأسرية والذاتية.

«الشرق الأوسط» جالت على موقع خصصها الشاب محسن عسيري، الذي يعمل «موظفا مدنيا»، ورصدت اهتماما بـ«شاي الجمر» أو كما يحلو لأهل المنطقة تسميته «شاهي الجمر» من عامة أهالي المنطقة بجميع الفئات العمرية، الأمر الذي أسهم في تبني كثير من الشباب لهذه المهنة، يستطيع خلالها إضافة دخل آخر، قد يشكل دخلا شهريا إضافيا، بل وأخذ بعض الشباب العاطل عن العمل في التمرس في هذه المهنة، التي غرست، كما يرى محسن، في أنفسهم ثقافة جديدة تجمع بين العمل الميداني والعمل الحر، بما يمكن الشاب من خلق أفكار محلية تتناسب مع متطلبات أبناء مجتمعه بصورة لائقة.

وحول العمل أمام أباريق الشاي الصفراء الصينية، يقول محسن: «أنا أعتبر عاملا أتقاضى أجرا يوميا، وأعمل مع زميل لي، هو صاحب الفكرة؛ حيث تبدأ ساعات العمل منذ الرابعة عصرا وحتى التاسعة مساء، وهو ما يتناسب مع عملي الصباحي على الرغم من المشقة والجهد، فأنا أعود إلى منزلي في تمام الساعة الثالثة ظهرا لأتناول وجبة الغداء، وأغادر فور انتهائي لأبدأ عملي كبائع لشاي الجمر، بأجر يومي لساعات العمل يصل إلى 70 ريالا، أي ما يفوق 2000 ريال في الشهر، وهو ما يسهم في سداد بعض الالتزامات المالية المستحقة عليَّ».

فمحسن لم يكتفِ ببيع شاي الجمر، بل خلق لنفسه سلعة غذائية منزلية الصنع، يروج لها مع شاي الجمر المشتعل، ويسرد فصول قصته: «اعتمدت مؤخرا على براعة زوجتي في صنع بعض أنواع الفطائر، وامتياز والدتي في خبز (فطير التنور) الذي تشتهر به منطقة عسير عن غيرها، فأكلف كلا منهما بصنع عدد معين من الفطائر بعدد معين وبإضافة نكهات، إما بالجبن وإما بالخضراوات، بالإضافة إلى قرص من فطير الميفا، فبيعهما يدر مبلغا يوميا يفوق 130 ريالا؛ حيث تباع الفطيرة الواحدة بريال، والقرص بـ4 ريالات، فلو حسبت كعوائد بيع شهر كامل تجاوزت 3600 ريال، تضاف إليها 2400 أجري كعامل، ليتكون لي مرتب شهري يتجاوز 6000 ريال».

وفي الطرف الآخر من موقع بيع «شاي الجمر» دخل الشاب عبد الرحمن القحطاني المهنة ذاتها، ويعتمد على بعض الأسر المنتجة، التي تندرج أسرته بينها، وتتقن فن الطهي المنزلي، وهذا ما شجعه على العمل على بيع كل ما تنتجه أسرته من مأكولات، خصوصا أشكالا مختلفة من الفطائر، ويقوم ببيعها في سيارته «المتواضعة» متقيدا بمتطلبات وشروط النظافة التي يسنها ويلحظها المشتري، حتى يكسب ثقته ليعاود شراء ما يعرضه من مأكولات.

القحطاني قال: «على الرغم من قلة معرفتي وخبرتي بفنون الطبخ، فإنني كنت ملتزما بفكرة أن أتعلم طريقة صنع الشاي، التي تحتاج إلى طريقة معينة، تتكون من عدد من ملاعق السكر، وكمية من الشاي، يتم غليه وطهيه لفترة معينة، حتى يتحول إلى لون محدد، لا يتعداه ولا يقل عنه، فهذه التفاصيل في طهي الشاي استقيتها من والدتي، لأضيف إلى شاي الجمر وبخبرتي المطولة إبريق الحليب بالزنجبيل، الذي يشهد هو الآخر إقبالا شديدا، خاصة في موسم الشتاء، ومع أوقات الصباح الباكر».

وما يزيد من إبداع تلك الظاهرة إصرار بعض الشباب على البقاء لفترة طويلة تحت جبروت البرد القارس كل صباح، ومع ساعات الليل المتأخرة، ليعودوا إلى منازلهم محملين بمردود مادي يكفيهم لقضاء عبء الديون والقروض ولإخماد نار غلاء المعيشة.

على ضوء ذلك يحدث «الشرق الأوسط» الشاب مازن المالكي، البالغ من العمر 13 عاما، الذي وجد من عمله كبائع لـ«شاي الجمر» فرصة يلبي بها احتياجاته الذاتية، ويساعد والده كبير السن في توفير مصاريف منزله.

وبحسبة مالية تحدث مازن وهو يقول: «ادخرت مبلغا من المال يعادل بيع 20 كأسا من شاي الجمر لأشتري لي بها حصالة أجمع بها المصروف المستقطع من عملي، الذي يقسمه والدي بيني وبين أسرتي، كمكافأة أتمتع بها مع نهاية كل شهر، لشراء ما أريد من دون تبذير أو إسراف، وهذا الأمر في الحقيقة أعطاني درسا، حول جدولة مهامي المالية بطريقة استراتيجية، لأطبقها مستقبلا في حياتي الخاصة حين أواجه بعض المشكلات المادية».

وحول أوقات عمله يقول مازن: «أعمل منذ الرابعة عصرا وحتى العاشرة ليلا، فأنا أقف على مقربة من الشارع الذي لا يبعد كثيرا عن منزلي، لأبيع شاي الجمر على المارة وقاصدي أماكن عملهم، وأقدم لهم بعض الفطائر المحشوة بالجبن والمحمصة كوجبة سريعة، وهذا كله يتم بعد انتهائي من أداء واجباتي المدرسية، لأعود ليلا إلى منزلي منهمكا، أبحث عن وسادتي استعدادا للنوم، وتمهيدا لصباح دراسي، ويوم عملي جديد في فترة المساء».