سورية تتحدى الرجال في صيانة المصوغات والمجوهرات وتصليحها

ناهي الفحيلي تمارس المهنة منذ 33 عاما وشعارها «الصدق والأمانة والجودة»

«الخالة» ناهي أمام طاولتها في دكانها الدمشقي الصغير («الشرق الأوسط»)
TT

في دكان صغير يكاد لا يتسع سوى لشخص أو شخصين داخل سوق الصاغة القديم بالعاصمة السورية دمشق، قرب الجامع الأموي، تجلس «الخالة» ناهي الفحيلي (67 سنة) خلف طاولة صغيرة، وهي تعمل على تصليح أقراط من الذهب.

بكل ثقة بالنفس، ومنذ أكثر من 33 سنة، عملت «الخالة» ناهي خلف هذه الطاولة الصغيرة التي تتجمع عليها «عدة» الشغل ومستلزماته، من اللاحم الكهربائي إلى مفكات البراغي. وباقتدار وإتقان، أنجزت التصليح المطلوب خلال بضع دقائق، وأعادت الأقراط الذهبية لزبونة شابة كانت تقف أمامها مندهشة، ومستغربة أحيانا، كيف اقتحمت «الخالة» ناهي مضمار هذه المهنة التي يحتكرها الرجال عادة.

في الحقيقة، ناهي الفحيلي، أو «أم أكرم»، للزبونة الشابة كل الحق في استغرابها، لأن الحرفية المخضرمة الموجودة أمامها هي المرأة الدمشقية الوحيدة التي امتهنت مهنة تصليح وصيانة المصوغات والمجوهرات الذهبية والماسية والفضية وكذلك النظارات الطبية والشمسية، التي هي في العادة من اختصاص الرجال.

«الخالة» ناهي ابتسمت عندما استقبلتنا في دكانها الصغير، وبعدما شددت علينا بضرورة لفظ اسمها بشكل صحيح... إذ إن البعض يخطئ ويناديها «نعيمة»، بدأت برواية حكايتها مع هذه المهنة في قلب سوق الصاغة، فقالت: «تعلمت هذه المهنة من زوجي وأحببتها، وتابعت العمل بها بعد وفاته، كما أنني علمتها لابني الشاب (إيلي شامية) الذي يساعدني في العمل ويحل مكاني في حال غيابي. ولكن لدي ابنة شابة لم تقبل تعلم هذه المهنة، بل فضلت العمل التعليمي وهي حاليا موجهة في إحدى مدارس دمشق».

وأضافت شارحة: «تعلمت ضرورة تنفيذ العمل بإتقان وبشكل يرضي الزبائن، بحيث لا يعود الزبون مطلقا بالقطعة ذاتها شاكيا من سوء الصيانة، وهناك زبائن يأتونني بقطع كانت قد خضعت لتصليح من قبل حرفيين آخرين لم يصلحوها كما يجب... لأتولى تصليحها من جديد».

وتابعت «الخالة» ناهي - أو «أم أكرم» - «يأتونني، مثلا، بأسورة مكسورة من أحد جوانبها فأقوم بتلحيمها بملحمة خاصة صغيرة تسمى (شلمون)، وطبعا مادة التلحيم هنا هي الذهب إذا كانت القطعة التي أصلحها ذهبية، أو فضة إذا كانت فضية، إذ يجب أن تذوب القطعة بالنار وتنصهر ومن ثم أقوم بتصليبها وتنعيمها، وبعد ذلك أخضعها لعملية تنظيف... فتعود الأسورة كما كانت قبل كسرها. وهناك أصناف عديدة تأتيني وأقوم بتصليحها، ومنها ما هو مرتفع الثمن مثل الجنازير والمباريم». وعن الوقت الذي يستغرقه تصليح القطعة الواحدة، أوضحت: «الوقت هنا يتعلق بحجم العطب الذي نال من القطعة ومساحته، فإذا كان العطب كبيرا ولقطعة كبيرة فقد يستغرق تلحيمها وصيانتها ثلاثة أرباع الساعة، أما مع خاتم صغير، مثلا، فالأمر لا يستغرق سوى خمس دقائق. ثم إن أجور الصيانة والتصليح تختلف حسب القطعة، فسعر غرام الذهب حاليا مرتفع ولذا تكون أجرة الصيانة مرتفعة لأنني أستخدم الذهب في الصيانة، حيث يخضع الذهب الذي أستخدمه لعملية صب وسحب من قبل خبير أدفع له أجوره لكي أتمكن من استخدام الذهب المسحوب في تصليح القطع الذهبية».

وأردفت «الخالة» ناهي: «أنا اليوم المرأة الوحيدة، ليس في دمشق فحسب، بل في كل المدن السورية التي تزاول هذه المهنة (وهنا تضحك لتأكيد تميزها وثقتها بنفسها)، والحمد لله سمعتي جيدة بين الزبائن ... لدي زبائن من الأردن والمملكة العربية السعودية أيضا يأتون لتصليح مصوغاتهم ومجوهراتهم عندي. وأنا أحرص على تصليح القطعة أمام الزبون ولا أبقيها عندي كي لا يظن البعض أنني يمكن أن آخذ من وزن القطعة الذهبية كما يفعل بعض المصلحين في قص جزء منها وسرقته... فهذا حرام وعيب. أنا شعاري هنا كمصلحة مصوغات ومجوهرات هو الصدق مع الناس والأمانة في كل شيء... لقد أصلحت قطعا نفيسة منها مثلا أسورة ماس سعرها مليون ليرة سورية (أكثر من عشرين ألف دولار أميركي) وكان أصحابها سعداء جدا بأمانتي وخبرتي بصيانتها».

وردا على سؤال حول أبرز الصعوبات التي تعترض عملها راهنا، أجابت: «ارتفاع سعر الذهب أثر كثيرا على عدد الزبائن، فلم يعد هناك أناس من متوسطي الحال والفقراء ومحدودي الدخل يشترون المصوغات الذهبية. وبالتالي، انخفض في المقابل عدد الراغبين في صيانة قطعهم لأنهم لا يشترون بالأساس... حتى إن هناك ورش صيانة كثيرة أغلقت أبوابها في دمشق ولم يبق سوى ستين ورشة... نحن منهم. وطبعا أنا أعاني أحيانا مزاجية بعض الزبائن، فهم يأتونني بالقطعة ويقولون لي هناك كسر في قسم منها فأصلحها لهم، ولكن أثناء تسليمها لهم يقولون لي إنني لم أصلحها من الطرف الآخر ولقد نسينا أن نخبرك أن هناك عيبا آخر فيها أو نرغب في صيانتها من قسم آخر فيها... وعندها، أضطر إلى تصليح الجزء الثاني. كما أن بعضهم يساومني بالأجرة ويحاول تخفيضها. ولكن، هل تصدق أن المزاجية هنا تكاد تكون حكرا على زبائني من النساء... في حين أن التعامل مع الزبائن الرجال مريح جدا في التعامل، فالرجل يشرح لي مباشرة ما يريد أن يصلحه في قطعته الذهبية أو الفضية، كما أن معظمهم مع الإشارة إلى أن أكثر من نصف زبائني رجال لا يساومونني على أجرتي، بل يدفعون دون جدال أو مناقشة كما تفعل بعض النساء! كذلك أعاني عزوف بعض الصاغة وتجار الذهب المجاورين لدكاني عن إرسال قطعهم لتصليحها عندي مفضلين إرسالها لزملاء آخرين لي... والسبب بحثهم عن الأرخص». وهنا أضافت: «ولكن أؤكد لك أن من يأخذ أجرة أرخص يستخدم الذهب عيار 12 في التصليح والتلحيم، بينما أنا لا أستخدم إلا الذهب عيار 18 المحول من عيار 21 الأغلى والأجود». ثم قالت، بشيء من التحدي: «على كل حال (يصطفلوا) (أي لهم وشأنهم)... فأنا لن أتخلى عن جودة الصيانة من أجل تخفيض أجرة الصيانة مهما انخفض عدد زبائني من تجار الذهب ويكفيني رضا الناس العاديين الواثقين بعملي والذين هم يدلون الآخرين علي». وفي كلمة أخيرة، قالت «الخالة» ناهي إنها تتمنى أن ينخفض سعر غرام الذهب لكي يعود الناس لشراء المصوغات الذهبية بكثرة وليس فقط لمناسبات الأعراس، وبالتالي لكي تعود مهنة صيانة وتصليح المصوغات والمجوهرات إلى حيويتها كما كانت في تسعينيات القرن الماضي، حيث كان يتراوح سعر غرام الذهب بين 350 ليرة سورية و500 ليرة، بينما يباع حاليا بـ1800 ليرة سورية بسبب غلائه عالميا.