«أصدقاء قصر نوفل» مجموعة ضغط لتنمية مدينة طرابلس.. ثقافيا

بيروت تحتضن معظم الفعاليات الثقافية في لبنان

جانب من الأنشطة التي أقيمت مؤخرا في قصر نوفل (تصوير: غسان خوجة)
TT

إثر انتهاء «الموسم الثقافي الشتوي» منذ أيام في مدينة طرابلس، الذي أطلقته مجموعة شبابية عرفت بـ«أصدقاء قصر نوفل» طُرح سؤال أساسي: هل سيكون هناك موسم ثانٍ قريبا؟ فبعد أن قدم هذا الموسم عددا من الأنشطة المتنوعة في مجالات السينما والمسرح الحي والتصوير الفوتوغرافي ومعارض الرسم والحرف الميلادية والحفلات الموسيقية والندوات الشعرية والتاريخية، كان لا بد من أن يتحرى الناس جيدا عن مصير هذا الموسم، الذي استطاع أن يستقطب رواد الثقافة من بيروت ومناطق مختلفة في لبنان.

فقد استطاع أن يخترق تلك المساحة «الفارقة» بين العاصمة الأولى بيروت والعاصمة الثانية طرابلس، ويعيد نبضا حيويا للتلاقي بين مدينتين لبنانيتين عاشتا زمن الحرب الأهلية بخوف، وتمرستا بأسلوبي عيش مختلفين.

فبين طرابلس التي تعاني مركزية حادة وبيروت المتألقة، هناك شبه جفاء ثقافي، لا سيما أن العاصمة بيروت تحتضن (حكرا وحدها) معظم الفعاليات الثقافية على أنواعها، بينما تعاني طرابلس «جفافا» في هذا المجال بعد أن ألصقت بها توصيفات «غريبة» عن نسيجها الاجتماعي المتنوع.

وعلى الرغم من تلك العزلة الثقافية التي عاشتها طرابلس، خرجت فكرة تأسيس مجموعة ضغط تهتم بإبراز المدينة ثقافيا وإعادتها إلى هذه الخارطة التي تميز لبنان الحضاري. فكان هناك ما يسمى «أصدقاء قصر نوفل»، وهم مجموعة شبابية تضم الباحث والمصور الفوتوغرافي إلياس خلاط والمخرج السينمائي غسان خوجة والمحامي خالد مرعب، إضافة إلى مجموعة شباب مساعدين.

الموسم الثقافي، الذي اعتمد أولا وأخيرا على جهود شخصية تطوعية من دون أي مقابل مادي، هو الأول من نوعه في مدينة تزخر بالإمكانات الثقافية والحضارية، ولا يشبه أي مواسم أخرى أطلقت في طرابلس، على الرغم من أن الأنشطة الثقافية الأخرى التي تقام في المدينة يرصد لها تمويل «ضخم» لا تحقق ما استطاعت هذه المجموعة تحقيقه في أقل من 6 أشهر بعد أن تجمعت حولها أعداد «عالية» من شبان وصبايا جامعيين وثانويين لم يكونوا قد وجدوا لأنفسهم مكانا ملائما يقارب رؤيتهم في الثقافة والفنون ويستطيع أن يتلاءم مع هواجسهم سابقا.

وبينما كانت تكاليف ما أقيم في «قصر نوفل» لم تتعد المليونين بعد تراجع «بلدية طرابلس» عن عهدها في تمويل المشروع ودفع بعض تكاليفه فقط التي وقعت معظمها على عاتق المنظمين ومن جيوبهم الخاصة، كانت معظم المشاريع الثقافية التابعة لمؤسسات فاعلة ومدعومة من سياسيين بارزين في المدينة تكلف آلاف الدولارات ولا تحقق ما تهدف إليه بسبب انتماء منظميها إلى رجال سياسة وتيارات مختلفة لا يتآلف معظم الشبان مع توجهاتها.

اختلف الموسم في المضمون والشكل وتمتع بثقة الشباب وحيويتهم، لا سيما أنه لاحظ في أنشطته اهتماماتهم وأفكارهم، وسعى إلى تطوير طاقاتهم وإبرازها بما يتناسب مع حضورهم في الوسط الثقافي؛ إذ اعتمد المنظمون في تخطيطهم لوضع «روزنامة» الأنشطة على معايير جديدة ومختلفة هدفها إظهار مواهب شابة لم يكن ليسمح لها أن تبرز وتحقق نفسها في غير هذه المساحة التي قدمت لهم.

بعض هؤلاء الشباب استطاع أن يلتحق بمهرجانات عالمية بعد أن فتح لهم هذا الموسم «فرصا حقيقية للتعرف إلى منتجين وأصحاب خبرات في تطوير المواهب وتوجيهها»، كما يقول إلياس خلاط لـ«الشرق الأوسط»، وهو صاحب فكرة «أصدقاء قصر نوفل» وأحد مؤسسيها. من هؤلاء الشبان: المخرج السينمائي الشاب معتز سلوم، الذي رشح فيلمه الجديد المعروض ضمن أنشطة الموسم إلى مهرجان «موناكو السينمائي» الذي يحمل عنوان «وان مومنت» أي «لحظة واحدة». الفيلم الذي حاز إعجاب كل من شاهده، ارتكز على تقنية المشاهد الصامتة المعتمدة على الإيماء، وشارك فيه الفنانان المعروفان في مجال المسرح: فائق حميصي ومنير كسرواني، ومدة الفيلم كانت 20 دقيقة. يؤكد سلوم أن فيلمه هو السادس بعد 5 أفلام تنوعت بين الوثائقي والتجريبي. سلوم بدأ بتنفيذ مشاريعه السينمائية منذ 3 سنوات وكلها تعتمد على تمويل ذاتي، يقول: «ما زلت أحاول قدر المستطاع أن أنتج شرائط أفلامي بتقنية عالية على الرغم من صعوبات التمويل التي تعتمد على ما أنتجه في مجال عملي».

يؤكد غسان خوجة (مخرج سينمائي) أن الموسم استطاع أن يثبت أن طرابلس لا تزال تخرج أجيالا مبدعة وأعمالا ذات قيمة، لكنها تحتاج فقط إلى دعم ومتابعة. وأشار خوجة إلى أن «الموسم تميز بوجود مجتمع مدني جديد غير مسيس وشبابي بامتياز». أما المحامي خالد مرعب فاستفاد من علاقاته ببعض الفنانين والمبدعين في بيروت ودعاهم إلى تقديم أعمالهم في القصر، لا سيما أن معظم من استطاع أن يجذبهم إلى طرابلس هم من الموسيقيين المعروفين في أوساط الشباب اللبناني، وشوهدت عروضهم في قصر نوفل مجانا ومن دون مقابل. يقول مرعب: «جميع من أتى من بيروت إلى القصر أعجب به وبزخرفاته المطلية بالذهب، وبقاعاته الواسعة وحزنوا على عدم الاهتمام به من قبل وزارة السياحة أو بلدية طرابلس». وأضاف: «القصر الذي احتضن الموسم وأنشطته وناسه بهر الجميع، فصاروا يأتون من مناطق مختلفة في أوقات خارج النشاطات ليصوروا قاعاته وأجزاءه الفنية الرائعة ويضعونها على موقع (فيس بوك) الاجتماعي ويسوقون له».

شمل الموسم ضمن أنشطته معارض صور فوتوغرافية للمصورة ستيفاني بوليكافيتش حول عمالة النساء، ولمجموعة «نحن نحب طرابلس» عن طرابلس وناسها، وللمصور الشاب فراس حلاق، وعروضا سينمائية لليدا كبارة ومعتز سلوم، ومعارض رسوم فنية لشنتال غريب وزينة بغدادي وعفاف مرعب ومازن كرباج، الذي أصر على القول: «إن طرابلس لا تحتاج إلى فيزا لعبورها»، ومسرحا إيمائيا لفرقة «فنون متقاطعة» والفنان الإيمائي الطرابلسي براق صبيح، وندوات شعرية ليحيى مولود وعلي حمام والدكتور سعيد الولي (بالفرنسية) والشاعرة سينتيا جلوان، وحفلات موسيقية وريستال لمحمد كبارة الملقب بـ«مو» الذي وقع ألبومه الأول بعد الموسم واستطاع أن يحصل على عروض للغناء في بيروت، وحفلا موسيقيا لفاهان بابازيان، إضافة إلى عدد من الأنشطة.

الموسم حقق نجاحا مميزا في مدينة قد لا نجد فيها مهتمين كثيرين بالثقافة، خصوصا أن معظم سكانها يعيشون في ظروف حياة بائسة، ومستويات الفقر والبطالة والتسرب المدرسي عالية فيها. فقلب المدينة الغارق بالبؤس، لا يوحي أن فيه مركزا ثقافيا مهما في بناء تاريخي قديم يعود إلى 200 عام خلت وكان ملكا لأحد وجهاء الطائفة الأرثوذوكسية في طرابلس يدعى قيصر بك نوفل، وهو أحد المبعوثين من البرلمان العثماني في تلك الحقبة، وهو الذي عمر في الساحة نفسها «ساعة ضخمة» وتبرع لإنشاء محطة قطارات بقيمة 7500 ليرة ذهب. قصر يحتاج إلى دعم وإعادة ترميم لتحويله إلى مكان ثقافي ومتحف مفتوح لأعمال الفنانين والمبدعين ومساحة لهم للتلاقي والتشاور والإبداع.