تونس: «متحف السيارات المحروقة».. سواد النيران بألوان زاهية

تحولت خلال الثورة إلى لوحات تشكيلية

بعض السيارات المحروقة أثناء الثورة التونسية لونت بألوان زاهية
TT

سألنا عن مفترق الطرق بين مدن الضاحية الشمالية للعاصمة، المفترق الذي يؤدي إلى «قرطاج بيرصة» و«قرطاج صلامب» والكرم الغربي، وكلها أحياء سكنية راقية قريبة من القصر الرئاسي. ذهب إلى ظننا في البداية أن الوصول إلى هناك قد يكون صعبا وأن الحي الشعبي المعروف باسم حي 5 ديسمبر المتاخم لتلك الأحياء قد يعيقنا عن الوصول في مثل هذه الظروف إلى ما أصبح يعرف باسم «متحف السيارات المحروقة»، بل يكفي أن تسأل أي شخص يقطن هناك عن السيارات المحروقة حتى يعطيك الخريطة التي توصلك دون عناء.

بطحاء ممتدة الأطراف، ربما كان أحد أصهار الرئيس السابق يفكر في الاستيلاء عليها وتحويلها إلى مجموعة من العمارات التجارية والسكنية وبأسعار مغرية لا تتعدى المليم الرمزي، ولكن الزمن لم يسعفه ليتم مخططه. السيارات المحترقة هناك بالعشرات وقد تحولت بريشة هاوية إلى لوحات تشكيلية بأتم معنى الكلمة. الكثير من التونسيين تحدثوا على عمليات الاستيلاء على سيارات صخر الماطري صهر الرئيس السابق، وتخريبها وحرقها، ولكن القليل اليوم يعلمون أن تلك السيارات المحترقة التي لم تعد صالحة لأي شيء قد تحولت إلى مكان سياحي يقصده الكثير من المارة لاستكشاف ما رسمه طلبة المدرسة التونسية للهندسة المعمارية بمعية أبناء حي 5 ديسمبر من لوحات تملأ المكان دفئا بألوانها الزاهية المتراوحة بين الأحمر القاني والأخضر الربيعي.

قبل أيام لم تكن تلك السيارات المحترقة مجمعة بنفس المكان، ولكن فاتن الرويسي الفنانة التشكيلية التونسية كانت وراء الفكرة وجمعت الكثير من السيارات المحترقة من أماكن عدة بالضاحية الشمالية للعاصمة، خاصة منطقة حلق الوادي، أين يتم تخزين السيارات القادمة من وراء البحار؟ وأين توجد بعض قاعات العروض للسيارات وكانت كلها مسرحا للحرق والنهب والتخريب انتقاما من أصحابها؟ الرويسي قالت إن المكان أغراها وهي ستحاول أن تبرمج بنفس الحماس معرضا للصور الفوتوغرافية مواضيعه مستلهمة من ثورة تونس الشعبية.

حي 5 ديسمبر المتاخم لمكان متحف السيارات المحترقة، سجل استشهاد سفيان، وهو شاب عمره 24 سنة عاطل عن العمل، فقد أطل برأسه من النهج ليلة 14 يناير (كانون الثاني) لاستجلاء ما يحدث في حيهم السكني، فعاجلته رصاصة أحد القناصين بطلقة في الرأس، أردته قتيلا على عين المكان. أما منتصر الشهيد الثاني فعمره 32 سنة، وهو متزوج وله بنت أصابته رصاصة طائشة في البطن، فسلم الروح ومات. أبناء الحي يذكرون للمارة كذلك اسم نجم الدين الذي لا يزال يتنقل على عكاز وتلمح على وجوههم الفرح والبشر بذهاب زمن وحلول زمن آخر. ولكن مسحة من الحزن الخفيف لا تزال منطبعة على الوجوه تلمحها دون أن يصرح به أصحابها، ربما تنتظر تلك الوجوه ألوانا أخرى تهديها لها الثورة الجديدة.

بمجرد اقترابك من متحف السيارات المحترقة يقبلون عليك يحدثونك عما جرى خلال تلك الليلة وما تم انتقاما للشهداء. فوق معظم السيارات المحترقة سابقا والحاملة لألوان الأمل اليوم، تلاحظ اسمي سفيان ومنتصر، وقد كتبا فوق كل الأسماء الأخرى التي شاركت في الثورة. أبناء الحي ربطوا بينهما وبين الحرية بألوان من دم ومن أمل. أطفال صغار في السن، ولكن ما يقولونه من آراء وأفكار حول الثورة والحرية والانعتاق يفوق أعمارهم بكثير، ربما الثورة أثمرت في وقت قياسي.

يقول أسامة بوخطيوة، 18 سنة، تلميذ من أبناء حي 5 ديسمبر، هذا الحي أسهم في الإطاحة بالاستبداد، وكل الشباب هنا على علم بشهدائهم، وقد قدموا إلى هذا الفضاء للتعبير عن عدم نسيان من دفع دمه لقاء ضمان الحرية للآخرين.

أما هشام المثلوثي، 17سنة، تلميذ، فقد أكد على جوانب الفرح في تلك الرسوم ويضيف: صحيح أنها رسمت على بقايا النيران المتدفقة أيام الثورة، ولكن وراء تلك المحرقة هناك بصيص أمل ولكن بالألوان هذه المرة.

ويذكر أنيس الصغير، 14 سنة، تلميذ، زملاءه التلاميذ في أكثر من مرة بظروف موت ابنين من الحي وإعاقة ثالث خلال ما يسميه المواجهات مع «مصاصي الدماء»، فعمليات حرق السيارات تلك كانت، حسب رأيه، رد فعل مباشرا على عمليات الاغتيال التي تعرض لها سفيان ومنتصر، ويتدارك ليقول إن تلك العمليات قد تكون دون جدوى وحركات بلا معنى، لأن الجميع يعلم أن تلك الأملاك المحترقة من مبان وسيارات هي بمثابة الخسارة الجماعية، ولكن رد الفعل ذاك، في ليلة 14 يناير تلك، وقبل التأكد من الإطاحة بالطاغية، كان طبيعيا حتى يشعر الأغنياء بإخوانهم الفقراء وهم ليسوا بعيدين عنهم كثيرا، فالمسألة على مرمى حجر.

ألوان زاهية تغطي ألوان النار والسواد. صفحة قد تكون طويت من تاريخ تونس بلا رجعة. النار عادة ما تأتي على كل شيء وتخلف التراب، ولكن هذه المرة خلفت للناظرين رسوما وألوانا تنتهي مع حقبة النار وأدخنة الاحتراق.