«سرطان الثدي السلبي الثلاثي».. الأخبث بين الأورام لدى النساء

علاجه محدود ومعدلات انتكاسته عالية وسريعة

TT

حصل في العقود الأخيرة تطور كبير في فهم طبيعة سرطان الثدي بعد تطبيق ما حصل من تقدم في فهم الجينات الوراثية وتدخلها في نشوء سرطان الثدي. وقد أصبح هناك اليوم تصنيف جيني لأورام الثدي باستخدام تقنية التعبير الجيني الشخصي (GEP) أو التنسيق الجزئي للحمض الريبي النووي المنقوص الأكسجين (DNA Microarray)، حيث يعتقد أن أنواعا من الأورام نشأت من تجويف القنوات الثديية وأن أنواعا تسمى بالمخصبة بمستقبل (HER2). وهذان النوعان يتسمان بوجود مستقبلات لوسائل علاجية تستخدم في علاج هذين النوعين من سرطان الثدي سواء العلاج الهرموني أو العلاج المناعي باستخدام عقار (trastuzumab).

لكن النوع الأخطر هو النوع الذي يسمى بسرطان الثدي السلبي الثلاثي، الذي يفتقد مستقبلات هرمون الأستروجين وهرمون البروجيسترون وكذلك مستقبلات العلاج المناعي باستخدام عقار (trastuzumab)، فلا يبقى إلا العلاج الكيميائي الذي أيضا لا يحقق نتائج باهرة في مثل هذا النوع. ويظن العلماء أن هذا النوع من سرطان الثدي نشأ من قاعدة القنوات الثديية ولذلك يسمى أحيانا بسرطان الثدي القاعدي (Basal like Breast Cancer).

* سرطان الثدي السلبي

* في إطار النشاطات العلمية للجمعية السعودية للأورام بجدة ألقى الدكتور عبد الرحيم قاري، استشاري أمراض الدم والأورام، محاضرة مساء الأربعاء في الثاني من شهر مارس (آذار) الحالي في فندق إنتركونتننتال بجدة، عن سرطان الثدي السلبي الثلاثي الذي تفوق نسبته في المملكة النسب المعروفة في دول أوروبا وأميركا، خاصة النساء الأقل عمرا دون سن اليأس.

وأفاد الدكتور قاري بأن هذا النوع من سرطان الثدي يعتبر أخطر أنواع سرطان الثدي، حيث لا يستجيب للعلاجات الهرمونية أو المناعية الموجهة إلى مستقبلات هير 2 (HER2). وتتصف حالات سرطان الثدي السلبي الثلاثي بأنها سرعان ما تنتكس خلال أعوام بسيطة على الرغم من أنها تستجيب في البداية للعلاج الكيميائي.

لكن العلماء اكتشفوا نوعا جديدا من العلاج الموجه ضد هذا النوع باستخدام عقاقير جديدة أثبتت فعاليتها في مكافحة هذا النوع الخطير من سرطان الثدي. وساعد على فهم كيفية علاج هذه الأورام الفهم الدقيق لسرطان الثدي والاختلالات في الشفرة الوراثية للخلية السرطانية وإعادة تصنيف حالات سرطان الثدي حسب تقنيات التعبير الجيني الشخصي مما يفتح الباب كبيرا أمام ما يسمى بالعلاج المفصل لكل مريض (Personalized Therapy) بحيث يكون علاجا خاصا لكل شخص حسب أسرار الشفرة الوراثية للخلية السرطانية لديه.

* خطورة السرطان

* لماذا سرطان الثدي السلبي الثلاثي هو الأخطر؟ يجيب الدكتور قاري بأنه خلافا لأنواع سرطان الثدي الأخرى تتسم حالات سرطان الثدي السلبي الثلاثي بأنها تترافق مع معدلات انتكاسية عالية وسريعة وتكون انتكاستها في أعضاء خطيرة مثل الكبد والرئة والدماغ على خلاف النوع الناشئ من تجويف القنوات الثديية التي تتسم حالاته في الغالب بتقدم بطيء للمرض على مدى سنوات طويلة قد تطول إلى أكثر من عقد من الزمن. ونظرا لعدم وجود مستقبلات للهرمونات أو مستقبلات لعامل النمو الجلدي الإنساني (HER2) تكون أسلحتنا محدودة في علاج هذا المرض مما يفاقم من شرور هذا المرض على المرأة المصابة به علما بأن هذا النوع يصيب في الغالب الأصغر عمرا دون سن اليأس.

* عوامل وراثية

* وقد تم التعرف منذ سنوات على جين وراثي يمكن أن يحصل فيه اختلال يسمى (BRCA1) أو (BRCA2) ويمكن أن يتم كشفه لدى العائلات التي تصاب أكثر من واحدة فيها بسرطان الثدي، وهذا الجين له وظيفة محددة وهي التدخل لإصلاح أي خلل في المادة الوراثية للخلية أي الحمض الريبي. وكون هذا الجين مختلا يجعل الخلية غير قادرة على إصلاح العطب في الحمض الريبي الذي يمثل الشفرة الوراثية للخلية. ويعتبر هذا العطب في بعض الأحيان واحدا من مجموعة اختلالات تؤدي إلى سرطنة الخلية الثديية.

لكن يجب القول إن الطفرة الوراثية في جين (BRCA1) أو (BRCA2) يحدث في 15 في المائة على الأكثر من حالات سرطان الثدي بينما نحو 85 في المائة من حالات سرطان الثدي لا نجد فيها هذه الطفرة وربما تكون هناك اختلالات غير الطفرة موجودة في هذين الجينين لكن لم يتم التأكد منها علميا بشكل أكيد. وفي معظم حالات سرطان الثدي المرتبطة بطفرات وراثية في جينات (BRCA1) أو (BRCA2) تكون الحالات هذه من نوع سرطان الثدي السلبي الثلاثي المذكور آنفا.

وهناك بحوث علمية أشارت إلى أن النوع الأخطر من سرطان الثدي أي السلبي الثلاثي ربما ينتشر في النساء السعوديات أكثر من الدول الغربية، حيث تصل النسبة حسبما أشارت الدكتورة دلال التميمي من جامعة الملك فيصل في الدمام في بحث نشر لها العام الماضي، إلى أن النسبة تصل إلى 42 في المائة، بينما النسبة في معظم البحوث الغربية نحو 15 في المائة.

* العلاج الكيميائي

* وحيث إن العلاج الكيميائي هو العلاج الدوائي الوحيد لهذا النوع الذي لا يستجيب للعلاج الهرموني أو العلاج المناعي، لذا يكون من المفيد معرفة كيفية استجابة هذه الحالات للعلاج الكيميائي. والحقيقة أنه في أغلب الحالات تكون هناك استجابة أولية سواء أعطي الدواء الكيميائي بعد استئصال كامل الورم أو ما يسمى بـ(Adjuvant Therapy) أو أعطي قبل استئصال الورم أو ما يسمى بـ(Neoadjuvant Therapy)، خاصة في حالة إعطاء العلاج قبل استئصال الورم، حيث أشارت البحوث إلى أن أكبر نسبة من الاستجابة الباثولوجية الكاملة (Complete Pathological Remission) نجدها في هذا النوع من سرطان الثدي، لكن الاستجابة الأولية هذه سرعان ما يتبعها انتكاسة سريعة خلال الأعوام الثلاثة الأولى ومن ثم يصعب علاج هذه الحالات بعد الانتكاسة.

وقد لاحظ العلماء في أبحاثهم أن عقار السيسبلاتين يحدث أكبر نسبة من الاستجابة الباثولوجية الكاملة في حالات سرطان الثدي السلبي الثلاثي، لكن فهم الاختلالات في الشفرة الوراثية للخلية السرطانية مثل الطفرات في جينات (BRCA1 أو BRCA2) جعلت العلماء قادرين على فهم لماذا عقار السيسبلاتين له هذا الأثر العلاجي الأكبر، حيث إن هذا العقار يتداخل في إحداث أذى في الشفرة الوراثية أي الحمض الريبي (DNA). وفي هذه الحالات التي تكون فيها قدرات الخلايا السرطانية في إصلاح اختلالات الحمض الريبي فيها محدودة، نظرا لوجود اختلالات أو طفرات في جينات (BRCA1 وBRCA2) وبذلك تنتهي الخلايا السرطانية إلى الموت المبكر أو المبرمج.

* علاجات موجهة

* في إطار البحث عن عقارات موجهة ضد سرطان الثدي السلبي الثلاثي جرى النظر في مجموعات من المريضات ضمن دراسات كبيرة يعانين من هذا النوع من سرطان الثدي وثبت أن هناك فعالية بسيطة لعقار بيفاسيزوماب (Bevacizumab) وعقار سيتوكسيماب (Cetuximab)، وهذان العقاران من الأدوية المناعية الموجهة ضد مستقبلات تدعى (VEGF) في حالة العقار الأول و(EGFR) في حالة الثاني. لكن النتائج المتواضعة لهذين العقارين على الرغم من تكلفتهما العالية أدت إلى العودة إلى دراسة الخلل داخل الخلية السرطانية للتوصل إلى أدوية جديدة وكانت حالات الطفرة الوراثية في جين (BRCA1 وBRCA2) مدخلا إلى فهم جديد لآلية جديدة لعلاج سرطان الثدي السلبي الثلاثي.

* آليات العلاج الجديدة

* أوضح د. قاري أن اختلال الشفرة الوراثية لخلية سرطان الثدي المسمى (BRCA1 وBRCA2) الذي يسبب خللا في إصلاح الضرر الذي يلحق بالحمض الريبي للخلية السرطانية عن طريق آلية تسمى التمازج المتماثل (Homologous Recombination) دفع الكثير من الأبحاث العلمية للبحث عن علاج يتوجه إلى هذا الخلل داخل الخلية في إطار مبدأ العلاج الموجه الذي يسود علاج أنواع السرطان المختلفة منذ عقدين من الزمن.

هذه الأبحاث دلت على وجود طرق أخرى لإصلاح خلل الحمض الريبي تستخدمها الخلية السرطانية في داخلها لإصلاح هذا الخلل، وأحد هذه الطرق يعتمد على الإنزيم بارب (PARP) الذي أشرنا إليه. وكان أمل العلماء أنه إذا تم اكتشاف عقار يعطل هذا الإنزيم الذي يصلح الخلية السرطانية فإن الخلية السرطانية تتجه إلى الموت المبرمج وبذلك يضعف نمو سرطان الثدي.

وفعلا تم اكتشاف عقاقير جديدة تدخل ضمن مجموعة جديدة من الأدوية تسمى مثبطات إنزيم بارب (PARP Enzyme Inhibitors) وهذه المثبطات تمنع إصلاح الخلية السرطانية عن طريق آلية تسمى الإصلاح عن طريق اقتطاع القاعدة (Base Excision Repair) وبالتالي تصبح الخلية السرطانية معاقة عن إصلاح خلل الحمض الريبي بآليتين مختلفتين هما آلية التمازج المتماثل وآلية الإصلاح عن طريق اقتطاع القاعدة وهذا ما يسمى بالقتل المركب (Synthetic Lethality) ومن ثم لا يكون هناك مصير للخلية السرطانية سوى مصير الموت المبرمج. ومن أمثلة مثبطات إنزيم بارب عقار (iniparib) وعقار (olaparib) وفعلا ثبت نجاح هذين العقارين إكلينيكيا في معالجة سرطان الثدي السلبي الثلاثي، حيث نشرت البروفسورة الأميركية جويس أوشونزي بحثها في مجلة «نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسن» قبل أسابيع. وقد ارتفع معدل استجابة مرضى سرطان الثدي السلبي الثلاثي المنتشر في الجسم من 23 في المائة إلى 52 في المائة عند استخدام مثبط إنزيم بارب (PARP) المسمى (iniparib) بالإضافة إلى عقارين من العلاج الكيميائي معروف عنهما أنهما يسببان ضررا في الحمض الريبي للخلية السرطانية، ولم تكن لعقار (iniparib) آثار جانبية تذكر. وكذلك نشر قبل عدة أشهر البروفسور البريطاني أندرو كوت بحث في مجلة «لانست» الطبية عن فعالية مثبط آخر لإنزيم بارب (PARP) يدعى (olaparib) في مريضات سرطان الثدي الحاملات لطفرة وراثية في جينة (BRCA1 أو BRCA2) حتى عند إعطاء هذا العقار وحده دون أدوية أخرى من العلاج الكيميائي، وهذا العقار الأخير عبارة عن أقراص يتم تناولها عن طريق الفم.

ويتوقع خلال السنوات المقبلة أن تكون هناك بحوث كثيرة عن فعالية مثبطات إنزيم بارب (PARP) في سرطان الثدي وغير سرطان الثدي من الأمراض الخبيثة، خاصة حين تكون هذه الأدوية تترافق مع آثار جانبية قليلة وفعالية واضحة في هذه الحالات المستعصية على العلاج.