الاكتئاب يجتاح اللبنانيين ويزيد من نسبة استهلاكهم لأدوية المهدئات

أبرز الأسباب تتمثل في «أعراض ما بعد الحرب» والأوضاع السياسية والاقتصادية

تضاعفت نسبة بيع الأدوية المهدئة للأعصاب منذ سنتين في لبنان
TT

وصلت كمية الأدوية المهدئة للأعصاب المباعة في السوق اللبنانية إلى مليون و600 ألف بعدما كانت في عام 2007 نحو مليون و82 ألفا وفي عام 2005 ما يقارب 869 ألفا. هذا الارتفاع الملحوظ لاستهلاك هذه الفئة من الأدوية يعكس صورة عن «المجتمع اللبناني المكتئب» الذي يعاني أعراض ما بعد الحرب النفسية، إضافة إلى أسباب أخرى متعلقة بالدرجة الأولى بطبيعة الحياة اليومية.

وعن هذا الواقع يقول الطبيب المتخصص والباحث في جراحة الدماغ والأعصاب الدكتور كمال كلاب لـ«الشرق الأوسط»: «تتفاوت حدة الوضع النفسي للبنانيين بين فترة وأخرى، وهذا الأمر مرتبط بشكل أساسي بالأوضاع السياسية والاجتماعية التي يعيش تحت وطأتها الشعب اللبناني. ويلفت كلاب إلى أن الوضع اللبناني الحالي الذي يمر بمرحلة (مد وجزر) على كل الصعد، إضافة إلى ما يحصل في الدول العربية، هي عوامل تجتمع لتزيد من حدة التوتر النفسي والعصبي في أوساط اللبنانيين الذين يشعرون بحالة من القلق وعدم الاستقرار، وبالتالي ارتفاع نسبة القلق والاكتئاب، وهذا ما يظهره عدد المرضى المتزايد في هذه الفترة والأعراض التي يعانون منها، ولا سيما تلك المتمثلة بأوجاع حادة في الرأس وآلام جسدية ومشكلات في الجهاز الهضمي والأرق والإرهاق الدائم.. وغيرها من الأعراض التي ترتبط بشكل مباشر بالاكتئاب والقلق». ورغم تأكيد كلاب أن اللبنانيين بشكل عام يعتبرون «أقوياء» في مواجهة كل المشكلات وهذا ما تثبته الوقائع اللبنانية على امتداد سنوات الحرب والأزمات، فتأقلموا مع هذه التقلبات وأصبحوا محصنين بمناعة ضدها، إلا أنه يعتبر أن هذا التوتر يصاب به بشكل خاص الشباب في بداية حياتهم المهنية إضافة إلى من تجاوزوا سن الأربعين وأصبحوا يشعرون أنهم في مرحلة يصعب عليهم فيها اتخاذ قرار المغامرة بل على العكس من ذلك يسعون إلى الاستقرار ويشعرون بصعوبة في اتخاذ قرار المغامرة، أما الآخرون فيمكن القول إن ميلهم للمغامرة يحميهم إلى حد كبير من التوتر والاكتئاب.

وفي حين تؤكد أمل وهي إحدى الصيادلة العاملات في «صيدلية مازن» في بيروت أنه منذ نحو أكثر من سنتين تضاعفت نسبة بيع الأدوية المهدئة للأعصاب، وتقول: «يمكن القول إن 50% من الأدوية المطلوبة لها علاقة بطريقة أو بأخرى بالاضطرابات النفسية، والتي في معظمها تكون بموجب وصفة طبية فيما يطلب الزبائن الآخرون المهدئات على أنواعها كالأعشاب وغيرها من الأدوية الخفيفة ولا يرتبط الأمر بعمر معين إذ للشباب حصة أيضا في هذه الطلبات»، فقد أظهرت دراسة حول الاضطرابات النفسية في لبنان، قامت بها «مؤسسة إدراك» برئاسة الدكتور المتخصص في علم النفس أيلي كرم أن لبنانيا واحدا من بين كل 4 مواطنين تعرض لاضطراب نفسي واحد على الأقل، وأن اضطراب الاكتئاب هو الأكثر شيوعا في لبنان من بين الاضطرابات الأخرى، يليه اضطراب القلق. كما بينت الدراسة أنه من المتوقع أن يعاني ثلث اللبنانيين تقريبا اضطرابا نفسيا واحدا أو أكثر في حياتهم قبل سن الـ75. في المقابل، تنطبق على 25.8% من اللبنانيين أعراض المعاناة من الاضطراب النفسي لمرة واحدة على الأقل في حياتهم، وتشير معطيات الدراسة إلى أن الاكتئاب هو الأكثر انتشارا ضمن فئة اضطرابات المزاج.

في المقابل، وبحسب الدراسة، لم يكن نقص العناية الصحية في لبنان واحدا من أسباب التأخر في السعي إلى العلاج، حيث يقدر أن هناك نحو 325 طبيبا لكل مائة ألف نسمة في لبنان، وهي النسبة الأعلى في الدول العربية، والتي تتساوى مع مثيلتها في الدول الصناعية.

لكن المطلوب هو زيادة الوعي بأهمية الصحة النفسية والتقليل من حظر الحديث عنها. وتدل معطيات الدراسة إلى أن تفشي الاضطرابات النفسية في لبنان شبيه بما هو عليه في بعض الدول الصناعية الأوروبية مثل ألمانيا وبلجيكا وهولندا من حيث نسبة الذين عانوا اضطرابا نفسيا واحدا على الأقل في حياتهم، فيما ترتفع إلى نحو 50% من عدد السكان في الولايات المتحدة. وأظهرت الدراسة «أن 30 إلى 50% من البالغين اللبنانيين يعانون عجزا حادا في حياتهم الاجتماعية اليومية في حال كانوا مصابين باضطراب نفسي أو عقلي، كالقلق أو الاكتئاب».

وعن هذا الواقع تقول المتخصصة في علم النفس العيادي كارول شراباتي لـ«الشرق الأوسط»: «بعد انتهاء حرب يوليو (تموز) 2006 ظهر لدى اللبنانيين ما يشبه اضطرابات ما بعد الصدمة التي تتكشف أعراضها عادة بعد انتهاء المعاناة اليومية التي يمر بها الإنسان والتي يكون خلالها بعيدا عن (واقعه النفسي) منشغلا بالبحث عن أي وسيلة تخلصه من المأزق الذي يعيش فيه ولا سيما النجاة والبقاء على قيد الحياة. وبالتالي يمكن القول إن هذه الحرب كانت (المفجر) لما كان (راكدا) في نفوس اللبنانيين الذين عاشوا الحرب اللبنانية منذ عشرات السنين. هذا فيما يتعلق بشكل عام بمن عايش هذه الحرب وعانى من مأساتها، فكانت نتائج حرب يوليو النفسية عليه انفعالا وتوترا عصبيا قد يصل في أحيان كثيرة إلى الاكتئاب». كذلك وعلى خط «اكتئابي» مواز للشباب اللبناني، ومن منهم أيضا حالفه الحظ في أن يولد بعد أن تضع الحرب أوزارها، كان نصيبه بأن يعيش هذه الأزمة السياسية والاقتصادية المتردية وما يرافقها من مشكلات مادية صعبة. وفي هذا الإطار تقول شراباتي «هذه المشكلات النفسية التي يعاني منها اللبنانيون في السنوات الأخيرة لا تقتصر على فئة عمرية دون أخرى، فالجميع وكل بحسب وضعه الاجتماعي والاقتصادي أصيب بهذه اللوثة. فإضافة إلى الذين يعانون من اضطرابات ما بعد الحروب، هنا فئة كبيرة من الشباب اللبناني يصارع ويبذل جهودا مضاعفة لتأمين لقمة عيشه، كما يأتي الوضع السياسي المتأزم في سلم الأسباب التي تنعكس سلبا أيضا على نفوس هؤلاء، فتجدهم يشعرون بعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي إضافة إلى الهواجس والقلق على المستقبل في ظل افتقادهم إلى أي تأمين للشيخوخة. وهذا الواقع ينعكس بدوره على عدم قدرة الشباب على الاستقرار والشعور بالاستقلالية وبدء حياتهم الخاصة والعائلية في العمر الطبيعي. وتلفت شراباتي إلى أن إكمال الشباب لتعليمهم الجامعي جعل من سن المراهقة يمتد إلى سن الـ24 عاما و25 عاما في بعض الأحيان، وبالتالي المشكلات النفسية التي ترتبط بشكل عام بهذه المرحلة تطول بدورها. وفي حين تلفت شراباتي إلى أن اللبنانيين أصبحوا واعين إلى حد ما وأكثر من قبل على هذا الوضع النفسي ويستعينون لتخطي المشكلة بالمعالجين النفسيين، تؤكد أن الكآبة التي تنعكس اضطرابا نفسيا وجسديا لا ترتبط فقط بالأوضاع التي يعيشها الفرد بل للمشكلة أسبابها الوراثية بدرجة كبيرة وتتطلب علاجا نفسيا وبالأدوية أيضا، كل بحسب حالته. وتلفت شراباتي إلى أن الاكتئاب لا يرتبط بطبيعة شخصية الإنسان، وبالتالي الأمر لا يرتبط بالقوية منها أو الضعيفة فالجميع قد يصابون بهذا المرض النفسي إذا تعرضوا للعوامل المسببة له.