احتمالات غياب النفط الليبي وخيارات التعويض

إيطاليا وإسبانيا وفرنسا ستتضرر جزئيا

TT

كيف استجابت الأسواق للتدخل العسكري الدولي في ليبيا وما هي مخاطر استمرار توقف أغزر حقول شمال أفريقيا النفطية إنتاجا لفترة طويلة على أسعار النفط والمحروقات وهل هنالك احتمال لحدوث أزمة في دول الاستهلاك الرئيسية.

يلاحظ حتى الآن، أنه لم تشهد أسواق النفط حالة ذعر كبيرة مثل تلك التي شهدتها، حينما بدأت الاضطرابات في ليبيا وما تبعها من احتجاجات في البحرين حينما قفزت الأسعار دفعة واحدة من 110 دولارات للبرميل إلى قرابة 120 دولارا. حيث ارتفعت الأسعار إلى قرابة 119 دولارا لبرميل النفط من نوعية خام برنت وإلى أكثر من 106 دولارات لنوعية خام غرب تكساس، وسط يوم الخميس في الأسبوع الماضي، حين بدأت حملة التحالف الدولي في ضرب الدفاعات الليبية ولكنها أغلقت التعامل عند مستوى 112 دولارا للبرميل لبرنت وتراجعت إلى أقل من 100 دولار للخام الأميركي. يلاحظ أنه منذ تنفيذ قوات الحلفاء لقرار مجلس الأمن والبدء في توجيه ضربات مباشرة لأهداف الدفاعات الليبية، تذبذبت أسعار برنت بين 110 دولارات للبرميل و116 دولارا. وحدث الارتفاع بفعل الشائعات التي تطلق في السوق من قبل المضاربين، وهي شائعات تراوحت بين القول بأن قوات الحلفاء ضربت القذافي وبين سقوط طائرات حربية. وبالتالي لم يكن للارتفاع، ورغم أنه ارتفاع طفيف، علاقة بمعادلة العرض والطلب بقدر ما هو مرتبط بالشائعات التي يغذيها المضاربون الذين يتصيدون تحقيق أرباح في أوقات الاضطرابات.

من هذا المنطلق يمكن القول بأن استقرار أسعار النفط في نطاق تذبذب ضيق خلال الأسبوع الماضي وحتى اليوم (110 - 116 دولارا)، يعود إلى عدة أسباب أولها التدخل القوي للسعودية في السوق وثانيا: انخفاض الطلب بنحو مليون برميل يوميا بسبب تعطل 9 مصافي تكرير يابانية وتوقف خطوط إنتاج الشركات الرئيسية في اليابان وثالثا: وجود احتياطات استراتيجية في أوروبا وأميركا ومن نوعية نفوط تستطيع تعويض الخام الليبي الخفيف. أما على الصعيد الجيوسياسي، فإن تجار عقودات النفط الآجل كانوا يراهنون على اضطرابات أوسع في منطقة الخليج الغنية بالنفط تؤدي إلى تعطيل إمدادات النفط وهذا لم يحدث كما كانوا يشتهون. ويلاحظ أن الهدوء عاد إلى البحرين وإلى سلطنة عمان ولم تحدث المظاهرات التي كانوا يراهنون عليها في السعودية، كما أن اضطرابات اليمن غير مؤثرة، لأن اليمن ليس لاعبا كبيرا في سوق الإمداد النفطي. وبالتالي فمراهنات المضاربة على نقص كبير في الإمدادات فشلت كما أن التدخل السعودي الفعلي بزيادة الإنتاج لتغطية أي نقص في السوق، أصبح واقعا لا يمكن تجاهله. ويلاحظ أن زيادة الإنتاج السعودي، دعمته شركة «أرامكو» بالإعلان عن نجاحها في إنتاج مزيج جديد من الخام الخفيف بعد خلط عدة نفوط من حقول مختلفة. وباستطاعة هذا المزيج الجديد أن يعوض جزئيا النقص في الخام الليبي الخفيف. وبالتالي يلاحظ أن الأسواق أدخلت في حساباتها غياب الخام الليبي لشهور وربما لطوال العام. لهذه الأسباب لم تتحرك أسعار النفط صعودا مثلما كان يتوقع لها المضاربون الذين توقع بعضهم أن تصل إلى 200 دولار للبرميل. إضافة إلى هذه العوامل، خفضت كارثة الزلزال والتسونامي التي ضربت اليابان الطلب على النفط بمقدار مليون برميل يوميا. كما أن أوروبا لم تتعاف بعد من أزمة الديون ولا يزال النمو الاقتصادي ضعيفا في دول أوروبية رئيسية مثل بريطانيا وإسبانيا والبرتغال واليونان. وبالتالي فإن الطلب ليس بالقوة التي كانت تتوقعها الأسواق قبل حدوث هذه الكوارث والأزمات. في هذا الصدد يقول عبد الله العطية، نائب رئيس وزراء قطر ووزير النفط السابق، في حديث له من الدوحة بداية الأسبوع، إنه ليست هناك حاجة لعقد اجتماع خاص لمنظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) لتناول الوضع. وأضاف العطية أن «توقف الإنتاج الليبي لم يؤثر بالفعل على العرض والطلب لأننا نعاين تعويضا من مصادر أخرى»، بينها السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة وغيرها. وقال: «عندما أنظر إلى المخزون، أرى أنه مرتفع للغاية ويغطي 60 يوما». وذكر العطية بأن بعض معامل التكرير في اليابان أغلقت بسبب الأضرار التي لحقت بها جراء الزلزال الهائل الذي ضرب البلاد في 11 مارس (آذار) الحالي، مما قضى على نحو مليون برميل نفط يوميا في جانب الطلب يمكن توجيهها لدولة أخرى. ويذكر أن الزلزال عطل 9 مصافي تكرير يابانية، أي نحو 33% من طاقة اليابان التكريرية. ولكن محللي النفط يقولون إن هذا النقص في الطلب عوض إلى حد ما النقص في المعروض الليبي على المدى القصير، مما ساعد على استقرار أسعار النفط. ولكن هذا النقص في الطلب لا يعول عليه في المدى الطويل لأنه لن يستمر طويلا، لأن اليابان ستعود خلال الشهور المقبلة بقوة للسوق النفطية بعد إصلاح الأعطال وعودة الشركات إلى التصنيع بعد إصلاح خطوط الإنتاج.

ولكن رغم هذه العوامل التي تدعم العرض، فإن هنالك عوامل تدعم الطلب في الشهور المقبلة، ويجب أخذها في الاعتبار. من هذه العوامل ارتفاع الطلب على المحروقات في شهور الصيف، وهي الشهور التي يكثر فيها السفر وبالتالي يرتفع استخدام المشتقات النفطية في أوروبا وأميركا وآسيا ودول الاستهلاك الرئيسية. ومن العوامل الأخرى التي ستدعم الطلب خلال العام الجاري قوة النمو في اقتصاد الصين والهند والاقتصاديات الناشئة. وذلك إضافة إلى احتمالات أن تشرع الصين في تنفيذ مشتريات نفطية ضخمة لزيادة الخزين الاستراتيجي الذي بدأت بناءه في الآونة الأخيرة.

* 3 عوامل مؤثرة

* في الواقع تتأثر أسعار النفط عادة بثلاثة عوامل رئيسية وهي عامل العرض والطلب، وعامل الاستقرار السياسي في الدول المنتجة للنفط وأمن الإمدادات والمضايق المائية الاستراتيجية لمرور الحاويات وخطوط أنابيب النفط، والعامل الثالث الذي بات مهما في الآونة الأخيرة، هو عامل المضاربة على النفط كسلعة استراتيجية يمكن لتجار النفط تحقيق أرباح منها صعودا وهبوطا في أوقات الأزمات.

على صعيد العرض والطلب، يلاحظ أن ليبيا دولة نفطية مهمة تنتج نحو 1.6 مليون برميل يوميا، نحو 1.8% من الاستهلاك العالمي المقدر بنحو 88 مليون برميل يوميا، حسب إحصائيات وكالة الطاقة الدولية. والمشكلة التي سيخلقها غياب النفط الليبي كليا من الأسواق، لا تتمثل في حجم الإنتاج الليبي، لأن الطاقة الإنتاجية الفائضة في السعودية تبلغ حاليا 3.5 مليون برميل يوميا حتى بعد رفع المملكة للإنتاج إلى قرابة 9 ملايين برميل يوميا، كما تبلغ الطاقة الفائضة في الكويت 700 ألف برميل يوميا، وفي الإمارات العربية المتحدة نصف مليون برميل يوميا. وهذه الأرقام تعود إلى تصريحات وزير النفط السعودي علي النعيمي لوكالة الأنباء السعودية وإلى المستشار العام الكويتي لشركة البترول الكويتية نواف سعود الصباح لـ«الشرق الأوسط». وهذه الطاقات الإنتاجية الفائضة يمكن أن تتدفق إلى الأسواق حينما يرتفع الطلب. ولكن في الواقع فإن أسواق الطاقة متوازنة حاليا، بل فائضة بالمعروض من الناحية الفنية، وهنالك فائض أكبر في العرض حتى قبل أن ترفع السعودية الإنتاج لطمأنة الأسواق. وبعد أن رفعت السعودية إنتاجها إلى نحو 9 ملايين برميل يوميا، أصبح الفائض أكبر، لأن معظم الإنتاج السعودي الفائض ذهب إلى التخزين ولم تستهلكه الأسواق. وحسب تصريحات وزارة النفط السعودية، فإن «أرامكو» لبت جميع الطلبات التي تقدمت بها الشركات خلال الأسابيع التي تلت توقف الإنتاج الليبي. ولكن حسب خبراء وكالة الطاقة الدولية فإن المشكلة التي يمثلها نقص النفط الليبي الذي يتدفق منه حاليا 400 ألف برميل فقط مقارنة مع إنتاجه البالغ 1.6 مليون برميل يوميا. حسب هؤلاء الخبراء فإن المشكلة التي يسببها غياب النفط الليبي تتمثل في نوعية النفط الليبي الخفيف الذي لا يعوضه سوى نفط من نوعيته لبعض المصافي الأوروبية والآسيوية وليست المشكلة في الكمية إذن ولكن في النوعية. ويلاحظ أن معظم الحقول الليبية تنتج نوعية ممتازة من الخام يطلق عليها اسم الخام الحلو الخفيف (لايت سويت كرود). وهو خام خفيف توجد به نسبة قليلة من الكبريت يماثل النفط الذي تنتجه نيجيريا والجزائر ودول قليلة في «أوبك». وهذا النوع من الخام مناسب جدا لإنتاج الديزل والغازولين ووقود الطائرات، خاصة بالنسبة للمصافي الأوروبية والآسيوية التي جهزت بطريقة تجعلها غير قادرة على تكرير النفط الثقيل الذي يحتوي على نسبة كبيرة من الكبريت. وبالتالي فإن الدول التي ستتضرر في حال استمرار الحرب الأهلية في ليبيا ستكون الدول الأوروبية ودول آسيا على وجه الخصوص خاصة الصين والهند. ويلاحظ أن مصافي أوروبا، خاصة المصافي الإيطالية المصممة خصيصا لاستهلاك النفط الليبي، تعتمد بدرجة كبيرة على الخام الليبي.

وحسب معظم خبراء الصناعة النفطية، فإن النفط الليبي ربما يغيب طوال العام الجاري، وذلك وفقا لنظرة عدة محللين نفطيين لدى «جيه بي مورغان تشيس أند كو» و«بانك أوف أميركا ميريل لنتش» و«باركليز»، الذين يعتقدون باحتمال أن يبقى الإنتاج النفطي الليبي مجمدا لباقي شهور 2011. وذكر لورانس إغيلز، رئيس قسم أبحاث السلع لدى «جيه بي مورغان» في نيويورك، أن «الافتراضية التي نعمل على أساسها تتمثل في أنه لن يصدر للخارج سوى القليل فقط من النفط الليبي خلال عام 2011. ومن الواضح، أن التطورات السياسية على الأرض قد تتبدل». ويلاحظ أنه بجانب «إيني» الإيطالية، توقفت عدة شركات من بينها «توتال إس إيه» الفرنسية و«أو إم في» النمساوية و«ريسبول واي بي إف إس إيه» الإسبانية و«رويال دوتش شل»، كبرى شركات المملكة المتحدة، و«بي بي».

* لا خطر على الإمدادات

* ويتفق خبراء الطاقة الدوليون على أن إمدادات النفط والغاز العالمية ليست في خطر بسبب توقف الإنتاج الليبي، باعتبار أن إنتاج ليبيا لا يمثل سوى 2 في المائة من إنتاج النفط العالمي، لكن بلدانا مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا اعتمدت بدرجة رئيسية على النفط الليبي خلال الأعوام الماضية ستتضرر جزئيا. ويلاحظ أن النفط الليبي يغطي نسبة 22 في المائة من استهلاك إيطاليا و16 في المائة من استهلاك فرنسا و13 في المائة من إجمالي استهلاك النفط في إسبانيا. وهي واردات لن تستبدل بسهولة على المدى القصير بالنظر إلى أن أوروبا تستورد أكثر من 85% من صادرات النفط الليبية ولكن يمكن تعويضها على أي حال. في هذا الشأن يقول هرمان فرانسن، زميل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية وكبير الاقتصاديين في وكالة الطاقة الدولية، «إن على أوروبا أن تختار بين أن تصبح أكثر اعتمادا على روسيا أو على الشرق الأوسط، أو على كليهما». أما منوشهر تاكن، المحلل المتخصص في شؤون النفط بمركز دراسات الطاقة العالمية في لندن، فيشير في تصريحات نقلتها «بلومبيرغ» إلى طريقة أخرى للتعويض إذ يقول: «سيتم التشديد على تعزيز أمن الإمدادات على نحو أكبر وأقوى، لكنهم سيجدون مصادر أخرى غير شمال أفريقيا والشرق الأوسط، مثل النرويج والقطب الشمالي». وهنالك عدة خيارات لتغطية نقص الإنتاج الليبي بالنسبة لأوروبا متاحة أمام الدول التي كانت تعتمد بشكل أساسي على النفط الليبي من بينها إدخال تعديلات على المصافي حتى تتمكن من تكرير النفط الثقيل، مثلما يحدث في المصافي الأميركية أو حتى الاستدانة من المخزون الاستراتيجي الخفيف في أوروبا أو استيراد نفط من نيجيريا والجزائر. عدا هذه الدول الأوروبية فلا يوجد نقص في الإمداد لبقية الدول، حيث تستورد أميركا نحو 44 ألف برميل يوميا، أي أقل من واحد في المائة، كما يوجد لأميركا مخزون استراتيجي يبلغ 727 مليون برميل، مقارنة مع 320 مليون برميل في أوروبا و420 مليون برميل في اليابان.

بناء على ما تقدم يمكن القول إن أسعار النفط ستتحرك خلال الشهور المقبلة في نطاق تذبذب ضيق ما لم يحدث عامل مفاجئ يؤثر في إمدادات النفط، لأن الأسواق أخذت في حسابها غياب النفط الليبي وأن هنالك إمدادات كافية وخيارات لتغطية الغياب.