الصورة بوصفها مساحة لتأليف الضوء

في معرض ليزا توماسيتي بـ«هيل سميث غاليري»

TT

من أجل فهم الصورة الفوتوغرافية، قد نكون بحاجة إلى مزيد من الدراسات في السيمولوجيا، وبعض الدراسات، الخاصة، بتشكيل الصورة ومشهديتها ووضعها في الأطر الفنية، إضافة إلى دراسات معمقة، ربما، في الأنثروبولوجيا وفن السينما والتصوير بشكل عام. نحتاج حقا إلى كل هذا، على الأقل من أجل فهم موضوعي وعلمي للصورة الفوتوغرافية.

لكن رؤية الصورة بناء على هذا، تفترض أن جميع مشاهدي الصورة من المتخصصين والأكاديميين، المتابعين بدأب لنشاط عروض التصوير والفوتوغرافيا على مستوى العالم، وكذلك المتابعين لكل هذه الدراسات أيضا. هذا الأمر يصعب تناول الصورة، يجعلها عالما مكتنفا بالغموض، الأمر الذي يفقدها شعبيتها وإقبال الناس عليها ومتابعتها. الأهم من كل هذا أنه يفقدها حب الناس لها وللتصوير بشكل عام.

والحق أن الصورة بهذا المعنى، أي الجماهيري الصرف، لا تقيم حواجز نخبوية بينها وبين متلقيها أو مشاهدها. هي فقط تضع شروطا بديهية تتعلق بالإحساس بالصورة نفسها. مع ذلك، ثمة الكثير من الأعمال الفوتوغرافية، التي لا تصل إلى غالبية متلقيها، حتى لو كانت سهلة الموضوع. إذ من غير الممكن على سبيل المثال، لغالبية متلقي الصورة، التعاطي بالإحساس المرهف مع معرض فوتوغرافيا حول الإنشاءات الهندسية المعاصرة، في حين أن الإحساس يكون متوافرا عند تلقي صور من مثل الصور الحالمة لجسر سان فرانسيسكو أو لصور العمال على أحد جسور ناطحات السحاب في نيويورك بدايات القرن الماضي. ثمة هنا، عامل إبداعي وحسي في الوقت نفسه. ففوتوغرافيا الهندسة المعاصرة تقتضي نقل إبداع الآخر بشكل جامد لا ينطلق من عين إبداعية للصورة نفسها، بل للعمل نفسه الذي سجن داخل صورة. في حين أن الأعمال الأخرى، تعتمد بالدرجة الأولى على مؤثرات الضوء والنوستالجيا، والأهم العين التي التقطت الصورة، وهي في النهاية عين فنان.

على هذا المنوال، تنسج الأسترالية ليزا توماسيتي، أعمالها الفوتوغرافية التي يعرضها «هيل سميث غاليري» في أدلاييد. المصورة السينمائية، التي عملت في أفلام عديدة هوليوودية ووثائقية، لا يعنيها من الصورة، على ما يظهر في أعمالها، سوى الحساسية التي تجعلها أقرب إلى ذوق المتلقي العادي أكثر من المتلقي الخبير. إذ إن الحساسية التي تشتغل بها توماسيتي أعمالها، لناحية الضوء والموضوعات التي تؤطرها هي أقرب إلى ذوق كلاسيكي. بيد أن هذه الأعمال، على الرغم من امتلاكها لهذه الميزة، تجعل من قيمتها الفنية والأكاديمية عالية بحق.

تشدد توماسيتي في أعمالها على علاقة حميمية بالضوء. علاقتها هي وعينها التي تؤلف المشهد وتلتقطه لتنقله إلى مرحله التجميد المطلق في الزمن. هذا التخيل الكامل للمشهد المصور مضافا إليه التأليف الكامل للموضوع، يجعل الصورة تتجاوز حتى فن التصوير نفسه وطبيعته والجدوى منه. هي هنا، مسائلة ذهنية تامة بين العقل والأدوات، ما يجعلها قادرة على فعل التأليف نفسه. التأليف الذي يجعل من اليومي والهامشي والعادي حدثا حقيقيا يستحق التأمل والمراجعة، وفي كثير من الأحيان العودة إلى الجذور، إلى اللحظة التي انبثقت منها تلك اللمعة الفكرية وبنت الموضوع. ثم والحال هذا، العودة إلى تلك اللحظة، السحرية، التي بدأ فيها العمل على إخراج المشهد بتجلياته.

تتميز أعمال توماسيتي، بقدرتها على امتصاص قدر هائل من الضوء، مما يجعلها قريبة إلى الحياة نفسها. العمل على وجود الضوء بهذا الكم في الأعمال المعروضة يجعلها أقرب إلى السينما منها إلى الصورة. نتلمس هذا من التوائم الهارموني بين الضوء والظل والألوان التي تسعى توماسيتي إلى الوصول إليها.

يخرج من عدسة وعين توماسيتي أعمال لا تشبه سوى نفسها. المصورة التي بدأت العمل الفعلي في بداية التسعينات، تعطي اليوم الصورة الفوتوغرافية في هذا المعرض ميزة أن تكون عين خبيرة. العين التي تجعل من كل شيء حدثا وعملا يستحق التأمل. ولهذا ربما يشهد معرضها إقبالا لا يمكن إلا التأمل فيه.