مشكلة الاندماج بين القبول الجزئي والرفض.. لاختلاف التقاليد والعادات

المبتعثون السعوديون في أستراليا: عودتنا أكيدة لحاجة البلد لنا وحاجتنا له

من اليمين إلى اليسار: نايف السلمي، عبد الرحمن الحيدري، سهل الرويلي، ياسر الدرعان («الشرق الأوسط»)
TT

الجلسة مع مجموعة طلاب سعوديين، خارج المملكة، ممتعة وشيقة للغاية. ليس لأنهم سعوديون فقط يتكلمون العربية، وهو ما يضيف الاستمتاع إلى الجلسة، أو لأنهم شباب يسعون إلى الثقافة والعلم، بل لأن هؤلاء الطلاب قدموا من بلد يشتهر بمحافظة مجتمعه، إلى بلد يتفوق على بلدان كثيرة بالحرية المتاحة داخل مجتمعه.

هنا، لا بد من الحديث ببعض الاستفاضة عن الصدمات الاجتماعية التي تلقاها هؤلاء، لحظة وصولهم إلى هنا. فالمجتمع الأسترالي يتأرجح بين وجهتي نظر، تتعايشان معا وسويا، تحت سقف القانون. الالتزام المعياري بأصول تعاليم الكنيسة بكل فروعها، وإن كان شكليا، وتقديس الحريات الفردية، بما لا يخدش اندماج المجتمع من جهة والقانون من جهة ثانية. وعلى هذا فإن هؤلاء الطلاب مضطرون، بضغط من الحياة اليومية، إلى معايشة واقع لا يمت إلى تقاليدهم التي تربوا عليها بصلة، وهو ما يعني إما محاولة الاندماج والاستفادة أكبر قدر ممكن من الحرية المتاحة في المجتمع والجامعة، أو رفض ذلك والعيش وفق ما نشأوا عليه، كحالة رفض لما لم يتعودوا على معايشته في بلدهم.

والحق أن الكثير من القصص يروى عن مسألة الاندماج، وهي جميعها تدور بين القبول الجزئي والرفض. إذ من النادر أن يحدث اندماج كامل، ليس بسبب رفض أصحابه. بل بسبب عدم قدرتهم على الاندماج في مجتمع جديد في فترة قصيرة، هي فترة وجودهم كتلاميذ. إذ أن الاندماج لا يتحقق بين ليلة وضحاها، خاصة أن التقاليد والعادات التي تدخل في باب الثقافات، لا يمكن محوها بسهولة. ورغم أن البعض وجد في الإقامة مع عائلات أسترالية فترة تدرب على اللغة والعيش في مناخات أسترالية (عائلية) نوعا ما، فإنهم والحال هذه، لم يتمكنوا من التأقلم كليا، مع أن بعضهم تمكن من التعود على أشياء تعتبر جديدة عليه.

يقول غالب سعود وهو طالب يتخصص في الصيدلة في جامعة أدلاييد «الحياة مع العائلة التي نزلت عندها كانت جيدة بالإجمال لكني كنت غير قادر على التفاهم معهم لا بسبب اللغة، بل لعدم قدرتي على التعاطي مع الاهتمامات التي تشغلهم فهي مختلفة» لكنه يضيف «تعلمت الانضباط والالتزام والاعتماد على نفسي بأمور لم أكن من قبل أقوم بها، مثل القيام بشكل دوري بتنظيف غرفتي وملابسي أو حتى تنظيف الصحن الذي آكل فيه». في حين أن عبد الرحمن وهو طالب دكتوراه في اللسانيات يقول إن «الإقامة مع العائلات مهمة لناحية التعرف على المجتمع الأسترالي لكنها ليست محبذة لأن بيننا وبينهم حاجزا ثقافيا كبيرا يصعب علينا التواصل معهم».

والحق أن سهل الرويلي الذي لم يجد مشكلة في الاندماج داخل المجتمع، كونه نشيطا على أكثر من مستوى، خاصة في واحدة من الجمعيات الأهلية التي تسعى لنشر فكرة مقاطعة كل شيء إسرائيلي، يعتبر أن شرط العيش مع عائلة أسترالية يبدأ «بكسر الحاجز النفسي بالانفتاح على الآخرين» حيث إن «هرمية المجتمع والعائلة هنا لا تشبه تراتبية العائلة في بلدنا، كما أن أطر النقاش داخل نظام العائلة لا تشبه بأي شكل تلك التي تربينا عليها ونشأنا في كنفها». ففي مجتمعنا يضيف سهل الرويلي «ثمة جدار بيننا وبين أي شخص آخر لا يمكن تجاوزه بالسهولة التي هنا». أما ياسر الدرعان الذي يتخصص في المحاسبة، فقد عاش تجربة مختلفة عن الباقين، حيث أقام في سكن مختلط مع 5 بنات وشاب واحد. ومع ذلك فإنه لم يتمكن من النجاح في التواصل سوى مع زميله الشاب «لقد سكنت مع 5 بنات لثمانية أشهر بداية وصولي إلى هنا لكني ولأسباب كثيرة لم أتمكن من التواصل معهن أو إنشاء صداقات رغم أن هذا الأمر كان متاحا».

أما نايف السلمي الذي يتخصص في الإدارة ويقيم مع أخته التي حصلت على بعثة هي الأخرى إلى أستراليا فيقول: «إن الإقامة هنا في هذا البلد مع أختي من دون حواجز اجتماعية نشأنا وتربينا عليها فتحت لي نوافذ التعامل مع المرأة» وهنا يقول نايف «بدأت أفهم ما هو هذا الكائن المسمى المرأة حيث كنت في بلدنا لا أتفق مع أختي أبدا ولا أحترم كيانيتها، التي لم تكن موجودة بحسب علمي. لكني حين أقمت أنا وهي بدأت أتقبل الاختلاف دون أن أسعى إلى تغييره، كما بدأت أنتبه إلى أن لها كيانا آخر لا يمكنني حجبه أو حتى قمعه» أما عبد الرحمن الحيدري فيقول: «حين وصلت إلى هنا وعشت كل هذه الفترة أدركت كم نحن مجتمع ظالم في تعاطيه مع المرأة».

باستثناء سهل الرويلي من بين هذه المجموعة من الطلاب، فإن الجميع لا يحبذون الاختلاط بالأستراليين. إما بسبب عدم تواجد نقاط اتفاق معهم من جهة، أو لأن الأستراليين، أنفسهم لا يحبذون التعاطي مع الجنسيات الأخرى، خاصة بين الطلاب. فبحسب تجارب هؤلاء، وبعضهم يدرس هنا منذ سنوات، يفضل الطلبة الأستراليون تكوين جماعات لا يمكن اختراقها بسهولة، ليس فقط على الطلاب العرب. وإنما على معظم الطلاب الأجانب. يبقى سهل الرويلي، الذي تمكن من تكوين بعض الصداقات، بين النشطاء من أجل فلسطين ويقول: «رأيت عن طريق الصدفة البحتة دعوة عن محاضرة حول الفصل العنصري في فلسطين» يضيف «ولأن فلسطين قضيتي بالأساس كوني عربيا دخلت لأتعرف لأول مرة على موضوع غاية في الأهمية لم أكن أعرف عنه شيئا».

لم يقتصر اهتمام هذا الطالب على المحاضرة فقط، بل بدأ الاهتمام بالموضوع نفسه يأخذه إلى نقاط أبعد «بدأت أشتري الكتب التي تتحدث عن هذا الجانب وعن القضية الفلسطينية بالإجمال وذلك لكي أكون رأيا يكون سندي في أي لقاء أو نقاش حوله وبعدها بفترة تعرفت على الناشطين في الموضوع ومعظمهم من الأستراليين الذين ينشطون في مجال جمعيات أهلية تسعى لمقاطعة البضائع الإسرائيلية والمتاجر التي تبيعها في أستراليا كافة».

لا يعتبر سهل الرويلي أن نشاطه يتعارض مع دراسته «هذا جزء من الحراك داخل أطر الجامعة التي هي إلى جانب كونها مكانا لتحصيل العلم فهي مكان أيضا للتفاعل مع القضايا الكبيرة في العالم وبالنسبة لي قضية فلسطين هي القضية الأهم كما تعلمنا في المملكة».

أصدقاء سهل لا يحبذون التعاطي مع المسائل السياسية «نحن هنا من أجل العلم» يقول عبد الرحمن الذي يتفق مع الجميع بما فيهم سهل، نفسه، بأن الشؤون السياسية في كثير من الأحيان تضيع الوقت الذي يجب أن يستثمر في الدراسة. لكن ياسر الدرعان، الذي يسعى للدفاع عن وجهة نظر سهل يقول إن ساعة واحدة «في الأسبوع من أجل فلسطين لا تفسد الدرس» لكنه يقول بأن الابتعاد واجب «عن كل ما يمكنه أن يؤثر على الدراسة بشكل مباشر».

لا يعاني هؤلاء الطلاب، وغيرهم، على الأرجح في عموم أستراليا، من مشكلات كثيرة. فالمنحة التي يتقاضونها من الملحقية، خاصة بعد الزيادة التي أقرها الملك عبد الله بواقع زيادة بلغت 50% «أصبحت تكفي كل الحاجات» كما يقول غالب الذي يضيف «هذا الأمر يضعنا أمام امتحان حقيقي لإثبات جدارتنا في دروسنا التي تتطلب منا الكثير من الجهد والمثابرة». في حين أن سهل الذي يكمل ما بدأه غالب يقول بأن «المسؤولية التي أمامنا هي يوم عودتنا إلى بلدنا، هناك علينا فعلا أن نبرهن واقعيا على أن ما تعلمناه هنا سيفيد مجتمعنا بشكل عام وليس فقط ذواتنا». لكن ثم مشكلات تقنية في العلاقة مع الملحقية التي يقول عنها سهل الرويلي بأنها «أفضل ملحقية على مستوى العالم إن كان من ناحية العلاقة مع التلاميذ أو حتى التسهيلات التي تؤمنها لنا جميعا دون تفريق».

يؤكد عبد الرحمن الحيدري بأن الملحقية «أقامت علاقة وثيقة مع الجامعات في كل أستراليا» وهذا الأمر برأيه «مهم جدا خاصة أن المبتعث السعودي هنا يشعر بأن هنا من يقف وراءه ويحميه ويسانده فنحن بهذه النتيجة لسنا وحدنا هنا».

الأمر المميز في معظم هؤلاء الطلاب، هو تصميمهم على العودة إلى المملكة. التصميم الذي لا نراه عند الطلاب العرب الذي يبتعثون للدراسة فيبقون في البلاد التي درسوا فيها أو يغادرونها إلى بلاد أخرى لكن ليس إلى بلدهم الأم. يعلل غالب الأسباب بأنها بالدرجة الأولى «رد جميل للملك الذي أراد بتعليمنا هنا إفادة مجتمعنا لا إفادة مجتمعات الغير» وثانيا يكمل ياسر الدرعان «نحن أبناء مجتمعنا لا نعيش خارجه ولا يمكننا التأقلم مع غيره بسهولة لذلك فالفائدة مزدوجة سواء لخدمتنا لمجتمعنا أو لراحتنا في مجتمعنا الذي لا نرتاح سوى ونحن جزء منه». أما نايف السلمي فيقول: «كل التجربة التي عشتها هنا أريد أن أنقلها بكامل إيجابياتها إلى مجتمعي الذي أعتقد بأنه في أمس الحاجة إلى كافة التقنيات والمهارات التعليمية التي تلقيناها هنا».