هل ينهار الاقتصاد التركي للمرة الثالثة رغم تطمينات الحكومة؟

وسط موجة إقراض استهلاكي ضخم يزكيه تساهل البنوك

يشعر الاتراك بقلق من أن يعيد التاريخ نفسه وتدخل تركيا في أزمة مالية أخرى (رويترز)
TT

هل اقتصاد تركيا المزدهر يوشك على التراجع والانهيار؟ يبدو أن الأمر كذلك.

يتحمل سماسرة البورصة قوائم انتظار أربعة أشهر ليدفعوا 150 ألف دولار مقابل سيارات «أودي» و«بي إم دابليو» بسعر يمثل ضعف الذي تقدمه الشركتان المنتجتان بعد خصم الضرائب. وقد دفعت إحدى شركات التنمية العقارية مؤخرا 33.3 مليون دولار للفدان عند شراء قطعة أرض مساحتها 24 فدانا في قلب مدينة اسطنبول، وهو ما يعد أعلى مبلغ تم دفعه. لكن تنبع المؤشرات المذهلة على احتمال اضطراب الاقتصاد التركي يعكسها تصرف المصارف الجريئة في تركيا والتي تعد محل شك كبير. فقد توصلت تلك المصارف إلى طريقة مبتكرة لتمويل المستهلكين المبذرين من خلال تقديم موافقات سريعة على القروض عبر رسائل نصية أو ماكينات صرف النقود. ويقول بعض المحللين والمصرفيين إن الزيادة الكبيرة في القروض الاستهلاكية أثارت القلق بشأن تضخم العجز في الحسابات الجارية والذي يقدر قيمته بنحو 8 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العام الحالي.

إن مشكلة تركيا في سد ثغرات بهذا الحجم هي السبب الأساسي للمرتين التي شهد فيهما الاقتصاد تراجعا في الماضي. ويشعر البعض بقلق من أن يعيد التاريخ نفسه وتدخل تركيا في أزمة مالية أخرى. في هذا الصدد يقول أتيلا ياسيلادا، خبير اقتصاد في «اسطنبول أناليتيكس»، شهدت تركيا آخر تراجعين في الاقتصاد عامي 1994 و2001: «إننا ننتج ونستهلك أكثر من طاقتنا. نحن نمول نمونا الاقتصادي من خلال الدين الخارجي الذي يزداد. في وقت من الأوقات تفاجئك الحياة». ويتجه الاقتصاد التركي نحو الانتعاش السريع أكثر من أي اقتصاد ناشئ آخر خلال العقود الأخيرة الماضية التي كان النمو الجنوني بها عادة ما يعقبه انهيار حتمي. لكن هذه المرة ستكون مختلفة كما تعد حكومة رجب طيب أردوغان، الذي على وشك خوض انتخابات عامة في يونيو (حزيران). ومن المتوقع أن يساعده الاقتصاد القوي على النجاح في البقاء في منصبه لفترة ثالثة. ولقد سبق أن قال الكثيرون إن اقتصاد تركيا قوي من قبل، وبالطبع قبل انهيار الاقتصاد التركي. لكن في تركيا، التي تواصل فيها ازدهار الاقتصاد طوال العقد الماضي ولم يتوقف إلا قليلا، أثناء الأزمة المالية العالمية، تقول الحكومة وعدد كبير من كبار رجال الأعمال إن تركيا تجاوزت مرحلة الازدهار الذي يعقبه تراجع وإن واضعي السياسات مستعدون حاليا إلى القيام بما يسمى الهبوط الآمن.

تقول فيك أسيكلين، الرئيس التنفيذي لمصرف «يابي كريدي»، أحد أكبر المصارف التي تقدم قروضا استهلاكية: «نحن نسعى إلى تحقيق نمو نسبته 4.5 في المائة خلال العام الحالي ونعتقد أن هذا مفيد للاقتصاد». ومنذ حملة الحكومة ضد القروض الائتمانية المبالغ فيها التي تقدمها المصارف منذ عشر سنوات، أصبحت القروض الاستهلاكية وسيلة لتمويل الطلب المحلي. وطبقا لبحث أجراه مصرف «ستاندرد أونلو» الاستثماري ومقره في اسطنبول، تراجع معدل القروض الشخصية، حيث تراجع المتوسط السنوي بنسبة 61 في المائة في الفترة من 2005 إلى 2008 وأخذ معدله في التباطؤ منذ ذلك الحين حتى وصل إلى زيادة نسبتها 42 في المائة العام الماضي. وليس مفاجئا أن يحظى هذا النوع من القروض بقبول كبير من المصارف والمستهلكين على حد سواء.

وبعد أن يتلقى أحد المستهلكين رسالة نصية من المصرف أو ملحوظة على ماكينة صرف النقود تفيد بأنه مؤهل للحصول على هذا القرض، كل ما عليه فعله هو القيام بزيارة قصيرة لأحد فروع المصرف للحصول على النقود. ويؤكد أسيكلين أن هناك رقابة ائتمانية كبيرة، ويقول إن القروض التي لم يتم سدادها محدودة للغاية، حيث تصل نسبتها إلى نحو 3 في المائة من إجمالي عدد القروض. ويضيف أن وضع النظام المصرفي التركي أفضل عن ذي قبل بوجه عام.

وأوضح أنه بعد أزمة عام 2001 وانهيار مصارف ذات رؤوس أموال ضئيلة، فرضت الحكومة قوانين صارمة تخص رأس المال والإقراض ساعدت على حماية المصارف من أسوأ آثار لفترة الركود التي شهدها عام 2009 عندما تراجع الاقتصاد بنسبة 4.8 في المائة. ولدى حكومة رجب طيب أردوغان، التي تعد أكثر الحكومات التركية حسما منذ 88 عاما وتمثل تاريخ الجمهورية التركية الحديثة، الكثير من الإنجازات التي تدعوها للتفاخر. فقد نجحت الحكومة في الوصول بإجمالي الناتج المحلي إلى نحو 730 مليار دولار العام الماضي، مما جعل الاقتصاد التركي يحتل المركز السابع عشر من بين أكبر اقتصاديات في العالم.

وبينما يعد مستوى المعيشة في تركيا حاليا أقل من ثلث مستوى المعيشة في دول الجوار المطلة على البحر المتوسط والتي تعاني من ركود اقتصادي وتنوء بحمل الديون مثل اليونان وإيطاليا، يبلغ النمو الاقتصادي نحو 9 في المائة وهو ما يعادل نسبة النمو الاقتصادي الصيني تقريبا. وبلغ معدل التضخم في تركيا 8 في المائة ومن المتوقع أن يصبح عجز الموازنة أقل من 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. ولم تتجاهل حكومة أردوغان احتمال أن تتجاوز تركيا حدود سرعة النمو الاقتصادي التي فرضتها على نفسها من خلال السماح للعجز في الحساب الجاري بالوصول إلى المستوى المرتفع الحالي. وفي معرض استهداف المصرف المركزي التركي للمصارف التي تحقق أرباحا كبيرة، فرض على تلك المصارف أن يكون لديها عدد أكبر من الودائع التي لا يتم منح فوائد عليها وهو ما من شأنه أن يحد من الأموال المتوفرة لديهم لإقراضها. وإذا لم تكن تلك الرسالة التي تفيد بضرورة الحد من القروض التي يقدمونها واضحة للمصارف بالقدر الكافي، فقد فرض علي باباكان، وزير الاقتصاد التركي، ذلك الأمر الشهر الحالي من خلال تصريحه بأن الحكومة لم تكن ترغب في اتخاذ إجراءات بوليسية قاسية في حال عدم استجابة المصارف للإجراءات غير الصارمة. وكانت هذه الإشارة تتردد في الوقت الذي تم إلقاء القبض فيه على صحافيين وكتاب بسبب كتابتهم مقالات تنتقد الدولة. لكن المشكلة هي أن وضع المصرفيين لم يعد الأقوى. خلال اتباع سياسة نقدية بطيئة التي استمرت لأكثر من ستة أشهر، ظل المستهلكون الأتراك النهمون يقترضون وينفقون. وكما كان متوقعا، جعلت المصارف اقتراض المستهلكين أكثر صعوبة من خلال رفع أسعار الفائدة. لكن مع سهولة الحصول على القروض الشخصية، لم تكن هناك إشارة واضحة على امتناع الأتراك عن الإسراف والتبذير. يقول فوات إربيل، رئيس القروض الاستهلاكية بمصرف «غارانتي» أكبر المصارف التركية، إن نجاح القروض الفورية يوضح القوة الشرائية البازغة لدولة أكثر شبابا وحيوية. ويضيف: ينفق الشباب أكثر من آبائهم، فهم يتناولون الطعام خارج المنزل ويهتمون بالموضة ويشترون أجهزة الـ«بلاك بيري» وأكثر من ذلك.

ولا يرى إربيل أي تراجع في الطلب على القروض، حيث تقبل المستهلكون زيادة أسعار الفائدة ولم يبد أنهم يبالون كثيرا بدفع المزيد حتى يتمكنوا من شراء أثاث غرفة سفرة في منازلهم الجديدة. وأوضح إربيل قائلا: «بعد أجيال فقيرة نسبيا، هناك شغف بهذا النوع من المشتروات». لقد كان هناك هوس بكل أشكال الاستهلاك والاستثمار واتضح ذلك من خلال احتفال أردوغان بافتتاح «سافير» أطول مبنى في تركيا في حفل بهيج في شهر مارس (آذار) الماضي. حتى هذه اللحظة لم يجذب المبنى الذي يتكون من خمسة طوابق فاخرة للتسوق سوى عدد قليل ربما في إشارة إلى تشبع اسطنبول التي تعج بالمراكز التجارية أخيرا. في إحدى عطلات نهاية الأسبوع، جلس مندوبو مبيعات بدا عليهم السأم أمام مكتب في مدخل المبنى يحاولون جذب الانتباه إلى عرض صاحب المبنى للاكتتاب العام. لكن كان أمام المصعد السريع صف ينتظر الصعود إلى آخر طابق للمبنى الذي يبلغ ارتفاعه 856 قدم. ورغم أن المبنى أقل من ثلثي ارتفاع مبنى «إمباير ستيت»، ما يراه المرء من فوق أعلى طابق به رائع، حيث يمكنك مشاهدة الأحياء ذات الطابع الأوروبي والآسيوي. كذلك يمكن مشاهدة مقار المصارف التي ساهمت في انتعاش الاقتصاد التركي والذي يراهن المصرفيون على عدم انتهائه بانهيار.

* خدمة «نيويورك تايمز»