الحرب حاضرة في معارض بينالي البندقية

الجناح الأميركي يشد الجمهور بدبابة مقلوبة

دبابة حربية ورياضي يجري على سطحها أمام الجناح الأميركي
TT

«حدائق الغارديني» ورائحة الياسمين التي تلفها وتستقبل القادمين هما بداية المطاف لكثير من زوار بينالي البندقية. تزدحم الطرقات الرملية بين الأجنحة المختلفة بمختلف أطياف الزوار من الإعلاميين إلى الفنانين وأفراد الجمهور الذين بدأوا في التدفق إلى جنبات المعرض الفني الضخم. حتى العائلات اصطحبت أطفالها الرضع وكأنها تحرص على أن يتلقى صغارها حب الفنون والجمال منذ نعومة أظافرهم.

ولكل مبتغاه في هذه المساحة الممتدة، ومع أن المعروض متنوع بشكل لا يمكن استيعابه في أيام فإن الكثيرون حرصوا على الاصطفاف أمام بعض الأجنحة حرصا منهم على أن يكونوا ضمن أول من يرى أعمال فنانيهم المفضلين حتى لو استغرق الأمر ساعات. فمثلا لوحظ حجم الإقبال على الجناحين البريطاني والأميركي وامتدت الصفوف أمامهم لمسافات طويلة، وإذا مررت أكثر من مرة بجانب تلك الصفوف قد تلمح من يتململ أو من يترك مكانه في الطابور الطويل بعد أن أرهقه الوقوف تحت الشمس الحامية. ونسمع إحدى الزائرات أمام الجناح البريطاني تشتكي لمسؤولة الإعلام الخاصة بالجناح من عدم قدرتها على الانتظار ويأتيها الرد مصحوبا بابتسامة: «يجب أن تحتاطي للانتظار الطويل على الأقل بإحضار بعض المشروبات»، وهو ما ترد عليه الزائرة بيأس: «ربما يجب علي إحضار مقعد أيضا».

ولكن لمن يمل الانتظار فبقية الأجنحة مفتوحة وفرصة التجول بينها متاحة.

الجناح الأميركي نجح في تبديد بعض الملل والتخفيف من قوة أشعة الشمس بأن شد أنظار زواره وباقي رواد «الغارديني» بوضع هيكل دبابة حربية ضخمة مقلوبة أمام المدخل، قد تكون الدبابة موحية في حد ذاتها، ولكن اللافت هو ما حدث أثناء النهار من أن صعد شاب على ظهرها وهو يرتدي الملابس الرياضية (الشورت والفانلة) وصعد على ما بدا أنه سير للمشي مثل ما يستخدم في الأندية الرياضية وبدأ بالجري عليه، في تلك اللحظة توقف الكثيرون من المارة لمشاهدة ما يجري وانشغل الآخرون بالتقاط الصور، وعند انتهاء الفقرة لقي الشاب عاصفة من التصفيق كما لو أنه قد قدم وصلة من الغناء.

على الجانب الآخر من الجناح الأميركي جناح آخر أشاد به النقاد وهو الجناح الكوري الذي قدم معرضا بعنوان «انتهى الحب والجرح سيندمل»، للفنان لي يونغ بيك. المعرض ينقسم إلى 3 أجزاء أولها بعنوان «الجندي والملاك»، من خلاله تمر إلى جانب جدار كامل تغطيه لوحات عملاقة تحمل صورا متداخلة لزهور ملونة، حديقة غناء أو هذا ما تبدو عليه للحظة الأولى، ولكن وجود أشخاص في القاعة يرتدون البزات العسكرية المصنوعة من قماش يحاكي تلك الحديقة يستوقف الناظر الذي لا بد أن يعود ببصره للوحات وهنا نكتشف أن الزهور ما هي إلا غطاء لجنود يحملون المدافع الرشاشة والمسدسات، يختبئون في بزات ملونة ويغطون وجوهم بأقنعة مماثلة. اللوحات يكملها عرض فيديو نسمع من خلاله تغريد العصافير ونرى من خلاله أيضا عرضا مستمرا لتلك الحديقة الخادعة. التناقض الحاد بين الحديقة والجنود هو «تناقض لا يتبع أي منطق ويعبر عن الواقع الاجتماعي للجيل الحالي» حسب ما يشير دليل المعرض الذي يشبه الأثر القوي الذي يتركه العمل المركب بتأثير القصيدة الشعرية وهو تأثير يستشعره المرء بشكل كبير. العمل الآخر الذي يقدمه الفنان لا يقل قوة وتأثيرا فنعبر إلى الحجرة المجاورة التي صفت على جدرانها مرايا ضخمة وضعت داخل أطر مذهبة جميلة التصميم وكأنها لوحات فنية، ولكن المرايا لا تصور عملا فهي تعكس صورة الزائر وأيضا تنبعث منها بفضل شاشات تلفزيونية وضعت داخل الإطار لقطات لما يشبه الانفجار، وما هي إلا ثوان ونسمع دويا مخيفا لتكسير زجاج وتناثر شظايا. الانفجار الذي يبعث في نفس المشاهد حالة من الذعر أيضا قد يجعل المتفرج أمام أسئلة حول الحقيقة والخيال.

في جانب آخر يقدم الجناح الفرنسي تجربة مفزعة إلى حد ما، فعبر عمل بعنوان «صدفة» للفنان كريستيات بولتنسكي يجد الزائر نفسه داخل غابة كبيرة من المواسير المعدنية المتشابكة تغطي كامل الحجرة وتمتد حتى السقف. هي ماكينة عملاقة لا تكف عن الدوران ويتعين على الزائر أن يحاول المشي من خلالها للوصول إلى أركان الغرفة، المثير أن المكينة تشبه مطابع الصحف، ونرى أوراقا ضخمة تتوالى عبر القضبان المعدنية وتتتابع في مسار دائري، الصور هي لوجوه أطفال حديثي الولادة، الوجوه تتوالى وتتابع الزائر أينما نطر في حركة دائمة وتبعث على الخوف أكثر من الحنان أو الحب الذي قد تثيره رؤية صور الأطفال. وتكتمل الصور بالدخول إلى الحجرة التالية حيث يوجد أمامنا عرض فيديو لوجه إنسان تتغير ملامحه باستمرار ولكن من دون تناسق، فمرة تحمل أنف طفل وعيني رجل عجوز وفم امرأة وتتغير وتحمل ملامح مختلفة مركبة متنافرة من أشخاص مختلفين. ويجد المتفرج نفسه مدعوا لإيقاف الصورة عندما تتكون صورة وجه متناسق بالضغط على آلة تحكم موضوعه في منتصف الحجرة وهي عملية ليست بالسهلة.

العنوان «صدفة» يعكس في ما يبدو موضوعا مفضلا للفنان الذي يعبر دائما في أعماله عن مواضيع مثل الحظ وسوء الحظ والصدفة، «وهي القوانين التي تسحرنا وتضع قوانينها الخاصة»، حسب تعبير جون هيوبرت مارتن، القيم على المعرض. يشير هيوبرت إلى أن المشاهد مدعو إلى الاشتراك في «لعبة» تركيب ملامح الوجه على الشاشة فإذا استطاع تكوين وجها متناسقا يصبح هو الفائز بالعمل. ويضيف أن فكرة تركيب أجزاء مختلفة على وجه الإنسان هي أساس تركيب الوجه البشري، «فنحن قد نرث الفم من أبينا والجبهة من جدنا الأكبر وهكذا».