عرض قطع فنية نادرة في تونس.. بعضها يعود إلى القرن الـ 17

صناديق وألواح فريدة في نوعها تندرج ضمن إبداعات الصناعات التقليدية

المعرض احتوى على مقصورات ذات أبواب مزخرفة ومرافع توضع عليها القناديل والشاشية وقوارير العطر.. وكلها أشياء تراثية («الشرق الأوسط»)
TT

يمكن للمتأمل في القطع الخشبية المزركشة المتفرقة والمتناثرة والمجمعة في قصر خير الدين بالمدينة العتيقة يكتشف بسهولة مدى عراقة تلك الألواح وذاك الكم الهائل من الصناديق التي كانت تمثل جزءا مهما من أثاث البيت العربي. المعرض طريف بكل المعاني، وهو من بين أندر المعارض التي شهدتها الفضاءات الثقافية التونسية خلال السنوات الأخيرة، فهو يخفي جهدا حثيثا بذله محمود المسعودي في تقصي تلك القطع الفنية النادرة والبحث عن مكامنها وجمعها والإبقاء عليها كلها دون تدخل بشري وعرضها على علاتها لكي تروي تاريخ عقود من الزمن.

المعرض لا ينتمي، حسب التصنيف التقليدي، إلى الفن التشكيلي، إلا أن الصناديق والألواح المعروضة كانت بمثابة القطع الفنية التشكيلية الفريدة في نوعها، وهو كذلك قد يندرج ضمن إبداعات الصناعات التقليدية، فالكثير مما يقدم خلال المعرض الذي يتواصل حتى الثالث من يونيو (حزيران)، يحمل بصمات الصناعة التقليدية الرفيعة التي كان يبدعها حرفي قلما يصنع من القطعة أكثر من نموذج.

يقول محمود المسعودي، صاحب المعرض المتخصص في الصناعات التقليدية، إن ما احتواه المعرض من تحف فنية لا تقدر بثمن هو ثمرة 25 سنة من الجهد المتواصل في البحث والاقتناء، وإن هذا المعرض ليس الأول من نوعه الذي تنظمه ورشته المتخصصة في الصناعات التقليدية. ويفسر المسعودي ذاك الكم الهائل من الصناديق والألواح المختلفة الأشكال بحب التراث العربي الإسلامي ويؤكد لـ«الشرق الأوسط» أنه أصبح مختصا في مثل تلك المقتنيات، فهو له القدرة على تحديد عمرها والمواقع القادمة منها ومادة الصنع وطريقة الزينة.. إلى غير ذلك مما اكتسبه من تعامله اليومي مع التراث.

المسعودي تنقل في مناطق عدة من تونس واسترعى انتباهه ذاك التراث الإنساني الحي بما يحمله من معان من الواجب المحافظة عليها وتطوير الجوانب المضيئة فيها. إذا زرت المعرض بصناديقه المرصوصة بعناية وبمرافعه المنزلية الرفيعة والمزينة بألوان زاهية، فمن المؤكد أنك ستتذكر على الفور تاريخ العائلة التونسية والروائح الزكية التي كانت جدته تخرجها من الصناديق لتتعطر منها بعطور كأنما هي جزء كبير من تلك الصناديق. القيروان وصفاقس وجربة ونابل ومناطق الساحل التونسي حاضرة بقوة في معرض محمود المسعودي، كل منطقة تستعرض كنوزها من الألواح المزركشة والصناديق الجيدة الصنع، أما مرافع السلاح فهي كثيرة ومتنوعة، والواضح أن البيت العربي غالبا ما يكون هناك جزء منه لحفظ السلاح ووضعه بعيدا عن متناول الأطفال الصغار وكذلك أيادي العابثين. رفوف عالية ومجموعة من حوامل القناديل والشاشية وقسائم غرف كانت مستغلة لدى بعض الأعيان ولدى بعض العائلات المتنفذة، كلها تتكلم بتاريخ العائلة التونسية وتتطبع بعاداتها بالانتقال من منطقة إلى أخرى. خطوط وألوان لا يمكن أن تخطئها العين الثاقبة، هو معرض يحمل في طياته الباطن والظاهر في حراك متواصل لعله يود أن يكشف للزائر حكايات وروايات وقصصا عرفتها تلك المحتويات، قد تكون قصص حب وقد تكون قصص غدر وخيانة.

الصناديق جمعها محمود المسعودي بصبر وهي مصنوعة من الألواح المزخرفة والمزركشة، ولا تمثل سوى نصف الكمية التي يمكن عرضها للمهتمين بالتراث العربي الإسلامي. يقول إنه جمعها من ماله الخاص وتمتد أعمارها بين القرن السابع عشر للميلاد وعقد الستينات من القرن العشرين، وكلفته عشرات الملايين من الدنانير التونسية. الأثاث القديم الناطق بعراقته التاريخية كان يؤثث المنازل العربية القديمة ويستعمل بشكل خاص لحفظ الأدباش والعقود والمعادن الثمينة إلى جانب الشاشية والسلاح.

المعرض احتوى على مقصورات ذات أبواب مزخرفة ومرافع توضع عليها القناديل والشاشية وقوارير العطر وكلها أشياء تراثية بعضها من أصل بربري وآخر ينتمي للمدينة وهو يرجع بذاكرتنا إلى العهود الأندلسية والعثمانية وهناك صناديق القيروان المميزة منها «صندوق سيدي عبادة» وهو من الأولياء الصالحين في مدينة القيروان، في إحالة إلى التراث القيرواني.

والمتأمل في تلك القطع الفنية يلاحظ أن البعض منها قد حفر الزمن فيها بأسنانه، عن ذلك يقول محمود المسعودي إن التدخل البشري يقضي على القطعة الفنية ويبطل أهميتها التاريخية، لذلك من الضروري تركها على الحالة التي هي عليها، فتلك ميزتها، وذلك صميم رمزيتها التاريخية. المسعودي لم يخف إغراءات كثيرة جاءته من مشارب عدة لاقتناء البعض من محتويات المعرض ولكنه قاومها بشدة لاعتقاده أن التراث يجب أن يبقى على ذمة كل الناس. لذلك يسعى صاحب المعرض إلى بعث متحف أو معرض قار لتلك التحف، إلا أن الإمكانيات المادية تعوزه في الوقت الراهن. المسعودي أكد انبهار وزير الثقافة التونسي بمحتويات المعرض ووعد بالدعم والمساندة.

نودع المعرض على لمسات يدوية لحرفيين رسموا العصافير والأسماك والأشجار والورود على صفحات اللوح، وتمكنوا بعبقرية من تشكيل ذاكرة جماعية والحفاظ عليها ترجمتها مجموعة من الرموز والأشكال التي تحيل إلى معتقدات التونسيين خلال فترة زمنية معينة مثل «يد فاطمة» المعبرة عن 5 أصابع تطرد العين والحسد، وكذلك الأسماك التي تحيل في المعتقدات إلى إبعاد الحسودين واتقاء شرورهم.