أشهر خياط رجالي في النمسا: الذوق الرفيع مكلف

تتراوح أسعار البدل لديه بين 12 و15 ألف يورو

TT

هل اندثرت مهنة الحياكة والتفصيل التقليدية في أوروبا والعالم الغربي؟ سؤال قد يجول بخاطر كل من يتجول في شوارع عواصم غربية كبرى ويندر أن يصادف محلات «ترزية»، وعندما يقع بصره بالصدفة على أحدها يكتشف أن عملها يقتصر حصريا على إدخال تعديلات لتقصير أو تطويل أو تضييق مع إضافة بعض لمسات الـ«تقييف» للملابس الجاهزة.

ولكن خلافا للمتبع حاليا وبوسط ساحة الغرابن في قلب العاصمة النمساوية فيينا القديم يقبع متجر ترزي للتفصيل يعتبره النمساويون إضافة لمدينتهم، ويعتزون به اعتزازهم بسيمفونيات موسيقارهم العبقري موتسارت، ويرون فيه مذاقا نمساويا خالصا يماثل كيكة الشوكولاته المعروفة باسم زاخر، وحفلاتهم الراقصة والأوبرا.

كان لـ«الشرق الأوسط» موعد مع أشهر خياط رجالي في كل أرجاء النمسا، رودلف نيدرسوس، مالك ورئيس الفريق العامل بمحلات «كنيش» للأزياء الرجالية. أجاب نيدرسوس عن ما طرحناه عليه من أسئلة بصوت منخفض ومعلومات دافقة عن كل ما يتعلق بالملابس الرجالية فقط، حيث إنه منذ أكثر من 10 سنوات أوقف العمل بصناعة البدل النسائية مكتفيا بالرجالية، وذلك رغم الشهرة الواسعة التي اكتسبها من تلك البدلة التي فصلها للممثلة الشهيرة مارلين ديتريش.

ترجع بداية محل «كنيش» لعام 1858، وكان حينها دكانا صغيرا لترزي عرف بمهارته، كيف يصبح المكان المفضل للملوك والأباطرة منذ نابليون الثالث وحتى البريطاني إدوارد السابع. وامتدت الشهرة إلى وقتنا الحالي، حيث تحول المحل إلى مقصد للكثيرين من «الأثرياء الجدد»، ممن يسعون لما يكسبهم مظهرا يليق بمكانتهم الجديدة مع لمحة أرستقراطية كلاسيكية لا تبعد عن آخر صيحات الموضة.

يحكي نيدرسوس أنه بدأ عمله بمحل «كنيش» كترزي، ومن ثم تمكن من الاستثمار في أعمال أخرى حتى اشترى المحل وانفرد بملكيته منذ 1976 كما له فرع آخر يديره ابنه.

يقول إنهم ومنذ 1858 لا يزالون يستقبلون زبائن يفضلون «بدل طلب» يتم تفصيلها وفقا لرؤية الزبون الذي يختار القماش ولونه ونوعه، ومن ثم تؤخذ مقاساته لتبدأ عملية الحياكة التي في معظمها عمل يدوي، مما يتطلب أكثر من بروفة وبروفة، وتلك مهمة تحتاج وقتا ومالا بالطبع. وفيما تجنب مفضلا عدم الكشف عن أسماء بعض هؤلاء الزبائن، وإن كان من بينهم الرئيس الفرنسي ساركوزي أو رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني، أوضح أن سعر أغلى بدلة من تلك النوعية التي تتطلب مجهودا وبروفات ومقاسات وأخذا وردا يختلف باختلاف ثمن القماش، ونوع التفصيل، وما يتطلبه من ساعات عمل خاصة، أنهم يحرصون أيما حرص أن يأتي الجزء العلوي أو «الجاكيت» في أكثر من طبقة (الخارجية ثم البطانة الداخلية) مع مراعاة ألا تكونا ملتصقتين ببعضها إلا في الجوانب والأطراف حتى لا يؤثر ذلك على عموم الشكل والمظهر، ولمزيد من التنسيق والانسياب بين الإكمال والظهر تتراوح الأسعار بين 12 و15 ألف يورو، لا سيما إن اختار الزبون نوعا من أغلى أنواع القماش.

أما أغلى أنواع القماش المفضلة لصنع بدلة رجالية فهو الصوف المصنوع من صغار حيوان اللاما، وحتى لا يهب ناشطو حقوق الحيوان في ثورة عارمة ضد ما يمكن أن تتعرض له اللاما من مجازر بسبب صوفها، نوضح أن عمليات قتل اللاما لجز صوفها أصبحت عمليات محظورة، ولذلك فإن تربيتها وحلاقة شعرها في أوقات معينة وبطرق محترفة أمست هي البديل. وتعتبر دولة بيرو من أشهر الدول في هذا المجال، الذي ظلت إيطاليا تحتكر استيراده ومن ثم تسويقه لسنين حتى تم فك هذا الاحتكار مؤخرا فدخلت أكثر من دولة في مجال هذه التجارة المربحة، رغم أن محل كمحلهم هذا لا يبيع أكثر من 5 إلى 10 بدل من صوف اللاما سنويا لبعض الملوك والوجهاء جدا من الأرستقراط. فيما يقل ثمن بدل أخرى من أقمشة خليط ما بين الصوف والحرير والكشمير والتازمنيا وحتى القطن التي يفضلها كثير من رجال الأعمال والدبلوماسيين.

وبينما استقبلنا نيدرسوس وهو في بدلة كاملة ليست من قطعتين فحسب بل 3 قطع بإضافة صيديري، علمنا أن محلهم لم يصمد تماما أمام اجتياحات ونجاحات ثقافة «الجينز» كخامة عملية سواء لبدل أو بنطلونات أو حتى قمصان.

وفي هذا الصدد يؤكد أن الجينز قد وصلهم فتعاملوا معه، كما وصلتهم ثقافة البدل الجاهزة التي يقبل عليها عملاء لا يسمح وقتهم بكثير من الزيارات للبروفات «والرواح والمجيء» بجانب كونها أرخص كثيرا حتى عند اختيار أقمشة من تلك النوعية المرفهة. وفيما أشارت بائعة تعمل بالمحل وتتحدث العربية والفرنسية والإيطالية بطلاقة اللغة الأم بالإضافة للألمانية والإنجليزية، إلى أن رئيسها نيدرسوس لا يميز بين زبائنه، وأوضحت أن المحل أصبح يستقبل الكثير من كبار الشخصيات العربية ممن يصلون إلى فيينا للسياحة أو العمل. فيما اكتفى هو بالقول إن أكثر ما يميز الزبائن العرب إصرارهم على أن يقوم بأخذ مقاساتهم رجل، ولهذا فإنه عادة ما يقوم بهذه المهمة بنفسه، لا سيما أن غالبية العاملين بالمحل من النساء، وذلك لدقة النساء ومهارتهن في هذه المهنة التي تتطلب الصبر ورشاقة الأنامل، كما قال.

وعند سؤاله عن زبائنه من الأثرياء الجدد، قال إن الغالبية من الروس بالإضافة لقلة من الصينيين. وعما يطلبون وأي مواصفات يختارون، أشار نيدرسوس مع ابتسامة إلى أن غالبيتهم في أول زيارة يكونون غير ملمين بما يرغبون فيه تماما بالإضافة لبعض «الشطحات» وكثير من «اللخبطة»، لكن في النهاية تتم أدلجة اختياراتهم وصولا للأحسن، لا سيما أن للمحل تقاليده وأسلوبه حيث ظل يعمل في هذا المجال منذ 150 عاما ساير فيها أسرا جيلا بعد جيل كثيرا ما فصل لشبابها أول بدلهم كما أن هذه الأسر تستعين به في أول حضور للحفلات النمساوية الراقصة التي تتطلب لباسا رسميا خاصا قوامه بدل الاسموكن والبدل ذات الذنب الطويل مع قمصان بيضاء وفيونكة بدلا عن ربطة عنق.

في سياق آخر، وكما يتدخل القانون النمساوي ليحظر أصحاب الأملاك من إدخال تعديلات يراها تغييرا في تراث قومي، فإنه يتدخل كذلك في مواعيد فتح وإغلاق المحال التجارية، ولهذا فإن نيدرسوس ليس بإمكانه إغلاق محله لخدمة زبون واحد فقط أثناء ساعات العمل الرسمي، مهما كانت مكانة ذلك الزبون وثروته، وإن كان بالإمكان استقباله منفردا بعد أن يغلق المحل أبوابه.

على كل، ورغم هذا الحرص حفاظا على تقاليد «واستايل» معين، اكتسب هذا المحل شهرة مكنته من الاستمرار في مجال صناعة أصبحت شبه منقرضة، لم ينف نيدرسوس أنهم يحضرون أحيانا عروضا لآخر صرعات الأزياء الرجالية، وذلك من منطلق إيمانهم أن التمسك بتفاصيل مميزة لا يعني العيش في قوالب تاريخية مفضلين عليها تقليدية عصرية.

قبل أن نستودعه لندلف في ساحة الغرابن التي تؤكد بامتياز نجاح العاصمة النمساوية فيينا في التعايش مع تقاليد إمبراطورية بروح عصرية متسارعة، سألناه إن كانت الأناقة تتطلب بالضرورة الثراء؟ فقال بدبلوماسية شديدة «ليس بالضرورة.. لكن الذوق الرفيع مكلف دون شك، لا سيما إن كان يتطلب عملا يدويا يجعل صناعة بدلة رجالية من قطعتين فقط يستغرق 4 أشهر بالتمام والكمال».