غرة رجب.. بداية على شهادات الميلاد ونهاية رحلة «الوظيفة»

وسط أجواء من التشاؤم حول الحياة المستقبلية للمتقاعدين

TT

ترتبط غرة شهر رجب، الذي انقضى أول من أمس، بالمواليد والتقاعد من العمل في السعودية، فكثير ممن لا يستطيعون وضع تاريخ ميلادهم بدقة، تمهر لهم في شهادات الميلاد، غرة رجب.

وذات التاريخ يمر بمرحلة انتقالية لدى قطاع واسع من المواطنين، هم الموظفون في الدوائر الحكومية والخاصة، حين تنطلق صافرة نهاية مرحلة العمل الوظيفي والإحالة إلى التقاعد. ففيما تدق ساعة النشاط بحصوله في أقاصي الشرق وساعة التفرغ للاستمتاع بحلوله غربا. تبقى مفاهيم كل ما يتعلق بالإحالة إلى التقاعد هنا في المملكة ظنا وقولا وفعلا، تبحث عن حقيقة الساعة التي تدق معه، فهو ينهي الحياة العملية لآلاف المواطنين والمواطنات سنويا، بعد أن يقضي أحدهم أو إحداهن ما يربو على نصف سنوات الدهر فيها، وليشغل ما تبقى من قوى الإدراك لدى صاحبه متسائلا: «ماذا بعد؟». ويتمزق الموظفون عند غرة رجب بإطلاق صافرة نهاية رحلة العمل الوظيفي، فبين من يبقى حبيسا لداره منشغلا بسجادة المجلس المتسخة وباب الشرفة المفتوح، ومن تحيله الأيام القادمة يركض لوضع لمسة بعد لمسة ينفق في كل منها ما يجب إنفاقه لتجهيز بناته أو تزويج أبنائه. وهنا يجدر الحديث عما يلحق بكثير من المتقاعدين والمتقاعدات من أمراض عضوية ونفسية يتصدر أولاهما السكري والضغط بامتياز وتعتلي الثانية العزلة والاكتئاب، حتى أن البعض يصف الحالة على أثر ذلك بتحوير لفظة متقاعد إلى «مت قاعد».

لا يتحول الاسم إلى فعل أمر من دون داع أو من فراغ، بل ينتج ذلك مما يسمى ضن المجتمع وبخله الجمعي عن إدراك ما يستقيم من دور رجل أو امرأة أفنيا ما بين 25 إلى 40 عاما وأكثر، في مجال عملي وحياتي ما، فيخالهم – أي المجتمع - بلا دور وبلا مكانة وبلا تقدير لذلك الجهد، فيأخذ في تكبيد نفسه غيرهم على نفس المنوال وهلم جرا.

المتقاعد الياباني هو نفسه العامل الياباني، والمتقاعد الأوروبي هو نفسه الشاب الأوروبي، يرى الأول في كل لحظة مجالا للإنتاج ويجد الثاني في كل لحظة فسحة للمتعة والمرح، كأنهم هم لا العرب من سمعوا ما جاء في الأثر الإسلامي الشريف «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا»، فالمتقاعد ينظر لنهاية فترة وظيفته نهاية لفترة عمله، خالطا حابل الوظيفة بنابل العمل.

وليس المتقاعد أو المتقاعدة وحدهما من يقع في الخلط الخطأ، فالدولة كذلك قصرت مع تلك الفئة كما فعلت مع فئات أخرى، وذلك بعدم توفيرها المؤسسات المجتمعية المتماهية مع اهتماماتهم وميولهم الفردية لتحتضنهم، وهم من قدموا زهرة العمر في خدمتها بقطاعاتها المختلفة.

قد يكون مقبولا استياء البعض مما يتعلق بتعبيرات المتقاعد في الشرق الأقصى أو في الغرب، وذلك على الأقل لأن متقاعدنا عليه أن يتأهب ويستعد للدار الآخرة التي سيفد عليها قريبا. يقال ذلك عند من اعتقد ألا مجال لسعادة أو حبور بحياة المتقاعد أو المتقاعدة، أو أن الإنتاج وتقديم الخبرات والاستمتاع كلها أمور قاصرة على من كان بمنأى عن الموت ممن هم على رأس العمل! يذكر هذا علما بأن فئة المتقاعدين وخاصة كبار وكبيرات السن منهم، أحوج ما يكونوا لما يشغل أوقاتهم ويملأ ساعاتهم ويأخذهم تدريجيا من حياة العمل والكد المجردة والمرهقة إلى الحياة الوديعة الساكنة، حتى إذا ما كان تفرغهم للصالح من أعمال الخير في حياتهم، فإنه يأتي عن رحابة صدر وطمع ورغبة منهم، لا بفعل ظرف مفاجئ قاتل للطموح وطامس للسرور اسمه «التقاعد».

لا ينحصر ما يقال عن المتقاعدين فيما سبق فقط، إذ أنه وعلى النقيض من ذلك، ضربت أمثلة من المتقاعدين والمتقاعدات ما يثار عن صعوبة وسوداوية حياتهم بعرض الحائط، واعتبرت نهاية الانشغال بالعمل بداية التفرغ له، فمنهم من زاول الأعمال الحرة بمختلف أنواعها، ومنهم من مارس ما استطاعه من التعليم والتربية والتثقيف، ومنهم من استغل الفرصة للتجول في أنحاء الدنيا، بالإضافة لمن صادق الورقة والقلم، وسجل تجربة الحياة، يستفيد منها ويستقي الجيل بعد الجيل في اللاحق.