أرائك «ملوكية» في بيوت الموظفين والعمال بكردستان العراق

بحبوحة مفرطة بعد سنوات التوفير والاقتصاد

أرائك فاخرة.. باتت من الضروريات في البيت الكردي («الشرق الأوسط»)
TT

مسايرة الموضة أصبحت ظاهرة لافتة في إقليم كردستان العراق مع تحسّن الوضع المعيشي للسكان، وظهور واسع لمحلات التقسيط المريح من شركات بدأت تتسابق لتسويق منتجاتها بتسهيلات كبيرة، وخاصة بعدما شبعت أسواق الإقليم من المنتجات المستوردة وامتلأت بها البيوت.

واليوم، تلعب الدعايات الإعلانية التي تعرضها قنوات التلفزيونات المحلية، التي فاق عددها 20 قناة محلية، دورا كبيرا في شيوع الظاهرة. ولذا صب المواطن أحمد ع. جام غضبه على هذه القنوات، قائلا: «زوجاتنا شغوفات بالمسلسلات التركية المدبلجة إلى اللغة الكردية التي تعرضها معظم القنوات المحلية. ولقد اعتدن هذه القنوات، بغية الحصول على أكبر مورد ممكن من الإعلانات، قطع مسلسل طوله 45 دقيقة أكثر من عشر مرات لعرض الإعلانات».

وأردف أحمد: «هذه الإعلانات تخرب بيوتنا، فكلما رأت زوجتي إعلانا بوصول أثاث جديد أو أجهزة كهربائية جديدة يطير قلبها فرحا، بينما ينفطر قلبي حزنا على استنزاف راتبي الشهري الذي يذهب الجزء الأكبر منه إلى الأقساط الشهرية. فهناك الكثير من أقساط الثلاجة والتلفزيون لم أسدّدها بعد، وإذا بالحَرَم المصون تطلب مني شراء موديل جديد»، قال أحمد هذه الكلمات بحرقة، في حين علت ابتسامة وجه زوجته، ولعل لسان حالها يقول: «وأنا ما لي؟ أذهب ودوّر على الفلوس. المهم أن أساير الموضة، ولا أقبل بفلانة أن تتفوق علي».

أما ز. م. وهو عامل مطعم، فقال من جهته لـ«الشرق الأوسط»، شاكيا حاله: «قبل فترة طلبت زوجتي أن أشتري طقما من القنفات (الكنبات) المصممة على شكل حرف «إل» بالإنجليزية، وبالفعل اشتريت الطقم بألف دولار. ولكن ما كاد يمضي أسبوعان حتى باعت الطقم بخمسمائة دولار، أي بخسارة نصف المبلغ في ظرف أسبوعين فقط، ولأنني محدود الدخل فقد اشتريت الطقم بالتقسيط».

إبان سنوات الثمانينات والتسعينات؛ عندما كان العراق يعاني من حصار اقتصادي دولي خانق، كانت العائلات العراقية إذا تعطلت الأجهزة الكهربائية (التلفزيونات أو الثلاجات أو الغسالات) وغيرها في بيوتها، تبادر إلى أخذها إلى محلات التصليح المحلية. وهنا كانت تُصلَّح بالمواد المحلية، وتسمى الطريقة بـ«الترهيم». وغالبا ما كانت عمليات التصليح تفشل بعد فترة قصيرة، ولكن ما كان هناك من بديل عن «الترهيم»، نظرا إلى عجز الكثير من العائلات عن تحمل تكاليف شراء أجهزة جديدة. وحقا كانت مهنة التصليح - أو «الترهيم» - رائجة في تلك الفترة. أما اليوم فنادرا ما يلجأ المواطنون إلى تصليح الأجهزة المعطلة، إذ أصبحت غالبية العائلات في غنى عن تصليحها، وصار من عاداتها رمي العاطل منها في حاويات القمامة، بل حتى العائلات التي كانت فقيرة فيما مضى ما عادت تعد تقبل مثل هذه «الصدقات» من الآخرين، بل تشتري هي أيضا حاجاتها.. و«آخر موديل!».

من جهة أخرى، كان الأكراد اللاجئون إلى دول أوروبا يروون عندما يعودون إلى أهلهم في كردستان العراق حكايات كانت تعتبر من الأعاجيب عن مشاهداتهم هناك، فيقولون - مثلا - إن الأوروبيين لا طاقة لهم على تصليح أجهزتهم الكهربائية، ولذا فإنهم يرمونها في حاويات القمامة أسفل العمارات السكنية، وإذا أردت أن تؤثث لك بيتا أو شقة هناك اذهب إلى تلك المخازن، فستجد فيها أحدث أنواع الأجهزة الكهربائية والأثاث مرمية هناك وليس فيها أي عطل أو مشكلة، فأصحابها يرمونها لمجرد تغييرها إلى موضة جديدة. هذه الحالة تتكرر اليوم في كردستان العراق.

وهي في رأي الحاج رمضان «إسراف وتبذير»، وهو لا يتردد في بوصف معظم هؤلاء بـ«الشياطين»، مستشهدا بقوله تعالى: «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين»، ثم يقول: «هذا منتهى الغرور، والغرور سيأكل رأس العائلة والمجتمع. ليس هناك أي مبرر لهذا الإسراف العجيب الذي نراه اليوم في العائلات على الرغم من أن معظمها عائلات كانت لا تملك قوتها قبل سنوات. ألا يفترض بهؤلاء أن يحمدوا الله على النعمة بدلا من أن يخالفوه بالتبذير والإسراف؟!».

ويضيف: «قبل أيام زرت بيت أحد معارفي فوجدت في بيته أربعة تلفزيونات معلقة على جدران غرفة، أليس هذا تبذيرا شيطانيا؟!».

ولفت الحاج إلى ظاهرة باتت منتشرة في معظم البيوت الكردية، وهي أنك بالكاد تجد اليوم بيتا ليس فيه أكثر من جهازين للتلفزيون، وعدد أكبر من المكيفات بعدد غرف البيت، وهذا ما يحمّل الطاقة الكهربائية عبئا هائلا، بحسب وزارة الكهرباء التي تحث دائما على ضرورة خفض الاستهلاك.

والواقع أنه بعدما كانت كردستان العراق بمحافظاتها الثلاث لا تستهلك قبل خمس سنوات أكثر من 500 ميغاواط من الكهرباء، وصل استهلاكها اليوم إلى أكثر من 2000 ميغاواط تنتجها المحطات الكهربائية، لكنها لا تكفي لسد الحاجات المحلية المتصاعدة دائما.

موفق محمد، وهو بائع للأجهزة الكهربائية في سوق أربيل، قال لـ«الشرق الأوسط» موضحا أنه في يوم واحد بيع في السوق الخاصة ببيع الأجهزة الكهربائية، حيث يقع محله، 35 جهاز تكييف منفصلا، المعروف بـ«السبليت»، الذي يستهلك طاقة كبيرة من الكهرباء. وتابع: «وقس على ذلك مع قدوم فصل الصيف وانتعاش الحالة المعيشية والعدد المتوقع لبيع مثل هذه الأجهزة المستهلكة للطاقة الكهربائية».

ومن جانبه، قال شوان عبد الله، وهو أيضا مالك محل في السوق: «من حق الناس أن يحسّنوا أحوالهم. ومن حقهم أن يمتلكوا السيارات، وأن يزينوا بيوتهم بأحدث أنواع الأثاث والأجهزة ما داموا يملكون المال، ولا سيما أن كثيرين منهم كانوا محرومين لسنوات طويلة من متع الحياة».

ثم استدرك شوان: «ولكن هناك مشكلة كبيرة جدا، فمثلا كثرة استيراد أجهزة التكييف سيؤدي إلى كثرة استهلاك الطاقة. والحكومة غير قادرة على تأمين ما يلزم من الكهرباء. وبناء عليه، فإنها ستضطر إلى قطع التيار الكهربائي لساعات في هذا الفصل الحار»، ثم قال: «أنا لا أقول أن يحرم الناس من التمتع بالهواء البارد، ولكن الأمور تجاوزت الحدود المعقولة؛ فما معنى أن تشغّل عائلة ثلاثة أجهزة للتكييف في بيت واحد؟!».

وهنا يوضح زانا ن. أن على رأس الأسباب «تباهي الزوجات»، ويضيف: «كنا في السنوات السابقة نجتمع، كل العائلة، أمام مبردة واحدة مستهلكة.. ولكن اليوم ترى كل العائلات تمتلك أجهزة السبليت. بل وعلى سبيل التباهي تعلق ثلاثة أو أربعة منها في الغرف، وكل ذلك من أجل التباهي، ناهيك عن التبديل المستمر لأثاث البيت، وهو بدوره نوع من أنواع التباهي من قبل الزوجات».

ويضيف زانا: «قبل أيام طلبت مني زوجتي أن نشتري جهاز تلفزيون لغرفة الأولاد، وعندما اعترضت قالت لي: (هل تريد أن تصوّرنا أمام الآخرين كمتسولين ومعدمين؟ لماذا يعلّق أخوك خمسة أجهزة تلفزيون في بيته ونحن لا نملك غير تلفزيون واحد؟». ويستطرد: «إنها تعلم على الرغم من كل ذلك أن أخي يعمل تاجرا في بيع الإطارات، بينما أنا مجرد موظف حكومي لا يتجاوز راتبي الشهري خمسمائة دولار».