عبد القدير خان: كوريا الشمالية دفعت رشى للحصول على تقنيات نووية

أبو القنبلة النووية الباكستانية يكيل الاتهامات

عبد القدير خان
TT

أكد مؤسس البرنامج النووي الباكستاني أن حكومة كوريا الشمالية دفعت رشى لمسؤولين بارزين في الجيش داخل إسلام آباد بغية الحصول على تقنية نووية حساسة في أواخر التسعينات من القرن الماضي.

وكشف عبد القدير خان عن وثائق يقول إنها تدعم زعمه بأنه شخصيا حول أكثر من 3 ملايين دولار في صورة مدفوعات من كوريا الشمالية إلى ضباط بارزين في الجيش الباكستاني وافقوا لاحقا على قيامه بتبادل خبرة فنية وأجهزة لعلماء من كوريا الشمالية.

ونشر خان أيضا ما قال إنها نسخة من خطاب أرسله مسؤول كوري شمالي إليه في عام 1998، كتب باللغة الإنجليزية، يتناول تفاصيل الصفقة السرية.

وقال مسؤولون استخباراتيون غربيون وخبراء آخرون إنهم يعتقدون أن الخطاب صحيح، وإنه يؤكد عملية لطالما لم يتسن لهم التثبت منها. ووصف مسؤولون باكستانيون، من بينهم من ذكرت أسماءهم كمستلمين للأموال، الخطاب بأنه ملفق. ويوجد خلاف بين خان، الذي يصفه البعض داخل باكستان بأنه بطل قومي، والكثير من المسؤولين الباكستانيين قالوا إنه تصرف بمفرده في عملية بيع الأسرار النووية.

ولكن لو كان الخطاب صحيحا، فإنه يكشف عن حادثة فساد كبيرة متعلقة بالأسلحة النووية. ويخشى مسؤولون أميركيون منذ عقود من احتمالية ضلوع عناصر من الجيش الباكستاني في انتشار نووي غير مشروع، ويرجع ذلك بصورة جزئية إلى التنظيمات الإرهابية الموجودة داخل المنطقة وسعي حكومات دول أخرى للحصول على قنبلة ذرية أو قدرات صنع قنبلة.

ولأن التعاملات في هذه المرحلة تكون معروفة بصورة مباشرة للمشاركين فقط، فإن تأكيدات خان وتفاصيل الخطاب لم يتسن لصحيفة «واشنطن بوست» التثبت منها من طرف مستقل.

وانتهى تحقيق أميركي لم يكن معلنا عنه في السابق حول قضايا فساد في قلب هذه المزاعم، أجري قبل إتاحة الخطاب، من دون شيء حاسم قبل ستة أعوام. ورجع ذلك بصورة جزئية إلى أن الحكومة الباكستانية منعت مسؤولا غربيا من التواصل مع خان، بحسب ما ذكره مسؤولون أميركيون.

ووفقا لكافة التقارير، فقد ساعدت باكستان كوريا الشمالية على امتلاك مقدرات تؤهلها للمضي في مسار يعتمد على اليورانيوم لتصنيع القنبلة، بالإضافة إلى أسلحة البلوتنيوم الموجودة لديها. وفي وقت متأخر من العام الماضي، سمحت كوريا الشمالية مجموعة من الخبراء الأميركيين بالاطلاع على منشأة تخصيب يورانيوم، وقالوا إنها تعمل. ويعود تاريخ الخطاب، الذي نشره خان وقال مسؤولون أميركيون إنهم لم يروه من قبل، إلى 15 يوليو (تموز) 1998، ووضعت عليه كلمة «سري». وجاء في الخطاب، الذي يحمل توقيع أمين حزب العمال الكوري الشمالي بيونغ جون هو، أن الـ«3 ملايين دولار دُفعت بالفعل» لمسؤول في الجيش الباكستاني وأعطي «نصف مليون دولار» وبعض الحلي لمسؤول ثان. ويقول الخطاب أيضا: «فضلا، أعطي الوثائق المتفق عليها والمكونات..إلخ، إلى مسؤول بسفارة كوريا الشمالية داخل باكستان، ليطير جوا عائدا عندما ترجع طائرتنا بعد تسليم مكونات صاروخية». ورفضت حكومة كوريا الشمالية التعليق على الخطاب.

وقال جيهانجير كرامات، وهو قائد الجيش الباكستاني السابق الذي اتهم بالحصول على الـ3 ملايين دولار، إن الخطاب غير صحيح. وفي رسالة عبر البريد الإلكتروني من لاهور، قال كرامات إن خان حاول أن «يحمل الآخرين المسؤولية» في إطار دفاعه ضد اتهامات بمسؤوليته شخصيا عن انتشار نووي غير مشروع. وأضاف أن المزاعم الموجودة في الخطاب «خبيثة وليست صحيحة مطلقا». وقال المسؤول الآخر الجنرال المتقاعد ذو الفقار خان إن هذا الخطاب «مختلق».

ورفضت السفارة الباكستانية داخل واشنطن التعليق رسميا على الأمر. ولكن قال مسؤول باكستاني بارز، طلب عدم ذكر اسمه «لتجنب مضايقة أنصار خان»، إن الخطاب «مختلق بشكل واضح، حيث لا توجد فيه ترويسة الخطاب الرسمية وليس عليه أختام.. والإشارة إلى مدفوعات مزعومة وهدايا لضباط بارزين في الجيش الباكستاني مضحكة».

ولكن يوجد انقسام باكستاني - غربي بشأن الخطاب، الذي قدمه لصحيفة «واشنطن بوست» الصحافي البريطاني السابق سيمون هندرسون، الذي تأكدت الصحيفة أنه حصل عليه من خان. وقال مسؤول استخباراتي أميركي تتبع قضايا الانتشار النووي إنه يحتوي على تفاصيل مؤكدة لقضايا حساسة معروفة فقط لحفنة من الأفراد داخل باكستان وكوريا الشمالية والولايات المتحدة.

وقال مسؤول أميركي بارز بشكل منفصل إن خبراء حكوميين خلصوا بعد دراسة نسخة من الخطاب إلى أن التوقيع يبدو صحيحا وأن المحتوى «يتماشى مع ما نعرفه» حول نفس الأحداث. ورفض كلا المسؤولين ذكر اسمه في هذا المقال بسبب حساسيات دبلوماسية.

وقال أولي هاينونن، وهو محضر بالوكالة الدولية للطاقة الذرية أشرف على تحقيق الوكالة مع خان قبل الانتقال إلى كلية كندي بجامعة هارفارد العام الماضي، إن الخطاب يشبه مذكرات كورية شمالية أخرى رآها أو حصل عليها. وقال إنها في المعتاد لا يوجد بها ترويسة. وعلاوة على ذلك فقد قال إنه سمع في السابق تقارير مشابهة، أصلها باكستاني، عن مدفوعات سرية من كوريا الشمالية لمسؤولين بالجيش الباكستاني ومستشارين حكوميين. وقال هاينونن إن محتوى الخطاب «له معنى كبير» على ضوء ما هو معروف عن البرنامج الكروي الشمالي. وقد كان جون، 84 عاما، وهو المسؤول الذي يظهر توقيعه على الخطاب، عضوا قويا في لجنة الدفاع الوطني الكورية الشمالية، وكان مسؤولا عن المشتريات العسكرية. وفي أغسطس (آب) الماضي، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات مالية على إدارته بسبب عملها في مجال الصواريخ الباليستية.

ووفقا لما قاله خان في التسعينات من القرن الماضي، فقد قابل جون الرئيس الباكستاني حينها فاروق ليغاري وطاف بالمعمل النووي داخل باكستان واتفق على عمل العشرات من الفنيين الكوريين الشماليين هناك. ويذكر خان تفاصيل المدفوعات التي يزعم أن جون رتب لها في بيانات مكتوبة، أتاحها هندرسون لصحيفة «واشنطن بوست».

وقال هندرسون، وهو زميل بارز في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، إنه حصل على الخطاب والبيانات من خان خلال الأعوام التي تلت اعتقاله من قبل السلطات الباكستانية عام 2004. وقدم هندرسون، الذي كتب كثيرا عن خان، الخطاب إلى صحيفة «واشنطن بوست» لأن ليس لديه مصادر تمكنه من التأكد من صحتها بنفسه. وقال هندرسون إن الخطاب والبيانات تمثل دليلا جديدا على أن ما قام به خان شمل مسؤولين باكستانيين بارزين غير خان نفسه. ورفعت عن خان الإقامة الجبرية، ولكنه لا يزال يخضع لمراقبة على مدار الساعة في ضاحية داخل إسلام آباد. وهددته الحكومة الباكستانية أخيرا بعقوبات جديدة بسبب اتصالات غير مشروعة.

وطرحت تساؤلات حول بعض التصريحات السابقة لخان. واتهم مسؤولون باكستانيون علنا خان، الذي لا يزال الكثيرون في باكستان يعتبرونه بطلا قوميا - بالمبالغة في مدى الموافقة الرسمية التي حصل عليها على نقله لخبرة نووية إلى كوريا الشمالية وليبيا وإيران. وفي عام 2006، اتهم الرئيس الباكستاني حينها برويز مشرف خان بالتربح بصورة مباشرة من نقل خبرات نووية.

وقال مارك فيتزباتريك، القائم بأعمال نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الحد من الانتشار النووي إبان إدارة جورج دبليو بوش، إنه رغم أن خان «لم يكن الوحيد الذي تربح من بيع محتويات وتقنية الأسلحة النووية الباكستانية.. فإنه طبقا للمعايير الباكستانية كان في مستوى معيشة مترف» وأثيرت شكوك كثيرة عقب الكشف عن حساب مصرفي خاص به في دبي، به ملايين الدولارات.

ويقول خان إن الحساب المصرفي استخدمه زملاء وجمعية خيرية أنشأها، ولم تطلب منه الحكومة إعادة أي أموال. وقال إنه في عام، أي بعد ستة أعوام من تقاعده الرسمي وشكوى من صعوبات مالية، حدد مشرف مدفوعات مالية تعطى مرة واحدة تعادل 50,000 دولار ومعاش شهري قيمته قرابة 2,500 دولار، وهي التي «تناقض كل هذه الاتهامات والمزاعم».

وعلى الرغم من أن مسؤولين أميركيين اختلفوا لأعوام بشأن مقتدرات تخصيب اليورانيوم داخل كوريا الشمالية، فإن هذا الخلاف انتهى في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عندما دعت حكومة بيونغ يانغ سيغفريد هيكر - وهو خبير كان يدير في السابق معمل أسلحة نووية أميركيا - ليشاهد مبنى جرى ترميمه في يونغبيون يوجد به أكثر من ألف جهاز طرد مركزي يستخدم في عملية التخصيب.

وقال هيكر في مقابلة أجريت معه إنه على الرغم من أن الحكومة لم تعلن عن أصلها وحجمها وشكلها وكفاءتها فإنها كانت قريبة من موديل أجهزة الطرد المركزي التي حصل عليها خان بصورة غير مشروعة من أوروبا، والمعروفة بـ«بي 2». وقال خان إنه ساعد على إعطاء كوريا الشمالية أربعة من هذه الأجهزة.

وأضاف هيكر أن «التصميم والتدريب الباكستانيين وشبكة المشتريات، الباكستانية، التي استطاعوا التواصل معها» سمحت لكوريا بـ«تجميع الأشياء سويا وإنجاح ذلك».

ووفقا لما أفاد به تقرير مكتوب لخان، فإن عملية دفع أموال كورية شمالية مقابل تقنية باكستانية حساسة أثيرت خلال مشادة في عام 1996 بسبب تأخر في مدفوعات نقدية من جانب باكستان لكوريا الشمالية مقابل بعض الصورايخ المتوسطة المدى. وقال مسؤولون أميركيون إنهم سمعوا عن هذا الخلاف.

وفي الخطاب، وجه جون في البداية الشكر لخان على مساعدته مندوب كوريا الشمالية داخل إسلام آباد الجنرال كانغ تاي يون في أعقاب حادث إطلاق نيران غريب قام فيه معتدٍ يفترض أنه كان يستهدف كانغ بقتل زوجته. ولكن فحوى الخطاب تتضمن عمليتين مهمتين: دفع رشوة من أجل تسريع المدفوعات الباكستانية المستحقة المتعلقة بالصواريخ ومدفوعات إضافية مقابل مواد لها علاقة بالتقنية النووية.

وفي بياناته المكتوبة، التي تتضمن خطابا من 11 صفحة أعده للمحققين الباكستانيين عندما كان قيد الإقامة الجبرية عام 2004 حصلت «واشنطن بوست» على نسخة منه، قال خان إن فكرة الرشوة جاءت من قبل ضابط باكستاني رفيع المستوى.

وأضاف أن كانغ استجاب بتوصيل نصف مليون دولار نقدا في حقيبة إلى جنرال باكستاني بارز رفض تسلم المبلغ. وتابع القول إن كرامات، وهو ضابط أرفع مكانة آنذاك، قال: «ينبغي أن أتخذ الترتيبات اللازمة مع جنرال كانغ لدفع هذه الأموال له عن صفقات سرية تخص الجيش الباكستاني. وبعد ذلك، سيصدر قراره بسداد مستحقاتهم المالية».

وكتب خان يقول: «تحدثت إلى جنرال كانغ، الذي أعطاني نصف مليون دولار نقدا قمت بتسليمها شخصيا». وذكر أن هذه الأموال أثارت شهية الجيش ليس إلا، وأن كرامات، الذي كان قد تولى للتو منصب رئيس أركان الجيش، «أخبرني أنه بحاجة لمزيد من المال مقابل ذات الأموال السرية وأنه ينبغي علي الحديث إلى جنرال كانغ».

وكتب خان أنه بمجرد الانتهاء من وضع تفاصيل المساعدة، «قدمت شخصيا الـ2.5 مليون دولار المتبقية لجنرال كرامات نقدا داخل مقر الجيش لتعويض المبلغ بأكمله». وأضاف أنه نقل الأموال على مرتين في حقيبتين صغيرتين وثلاثة صناديق كرتونية، وكانت إحدى المرات لمقر إقامة رئيس أركان الجيش.

وعلى رأس صندوق كارتوني، كان يضع بعض الفاكهة، وأسفلها 500.000 نقدا، حسبما كتب خان في خطاب لهندرسون. داخل الحقيبة كان يوجد 500.000 دولار، أما داخل الصندوقين الآخرين فقد وضع مليوني دولار، حسبما كتب.

إذا كانت هذه الرواية صحيحة، تبقى الوجهة النهائية لأي أموال غير واضحة. وقال مسؤولون باكستانيون خلال مقابلات أجريت معهم إنهم لم يعثروا على أدنى أثر للأموال في حسابات كرامات بعد إجراء تحقيق في هذا الصدد. إلا أن المؤسسة العسكرية معروفة باستغلالها حساباتها السرية لأغراض مختلفة، بما في ذلك عمليات سرية ضد الهند المجاورة داخل إقليم كشمير المتنازع عليه.

وقال كرامات إن مثل عمليات التسليم تلك في حكم المستحيل وإنه «لم يكن جزءا من المجموعة المعنية بتأجيل أو حجب أو التصريح بدفع أموال» لكوريا الشمالية. ووصف الخطاب بأنه مجرد «أفكار متخبطة تماما».

وينص الخطاب أيضا على أن زميل كرامات، ذو الفقار خان، تلقى «نصف مليون دولار و3 أطقم من الألماس والياقوت» لتمهيد الطريق أمام صفقات مرتبطة بالمجال النووي. وكان ذو الفقار خان، الذي أصبح لاحقا رئيس الشركة الوطنية للمياه والطاقة، من بين الذين شهدوا الاختبارات النووية للبلاد قبل ستة أسابيع من كتابة الخطاب.

وعندما طلبنا منه ردا، قال عبر رسالة بريد إلكتروني إنه يعتبر الأمر برمته «اختلاقا ومحض خيال»، مشيرا إلى أنه لم يسبق اتهامه قط بأي «عمل مشين أو انحراف» على امتداد عمله كقائد عسكري خلال 37 عاما. ونفى أي صلة له بعقود كوريا الشمالية.

وقال المسؤول الباكستاني البارز إن كرامات وخان كانا «بين أول من بادروا بالمساءلة» لعبد القدير خان وزملائه، وإن اتهامهم بالتورط في الانتشار النووي غير القانوني «ليس سوى رد فعل انتقامي من شخص فقدت الثقة فيه».

في الخطاب، طلب جون أن يتم وضع «الوثائق والعناصر المتفق عليها» بالخارج ونقلها على متن طائرة كورية شمالية. وهنأ خان بالاختبار النووي الباكستاني الناجح متمنيا له «صحة طيبة وحياة مديدة ونجاحا في عمله المهم».

وأجرت الاستخبارات الباكستانية تحقيقا مع كرامات عام 2004 حول مزاعم خان، تبعا لما ذكره مسؤول بالحكومة الباكستانية، لكنها لم تصدر بيانا حول ما توصلت إليه. وعين مشرف، الذي أشرف على التحقيق، كرامات سفيرا في واشنطن بعد 10 شهور، مما دفع الاستخبارات الأميركية لإجراء مزيد من التحقيقات حول دور كرامات في بيع معدات نووية مقابل أموال نقدية.

وذكر العديد من المسؤولين الأميركيين أن التحقيقات لم تتوصل لنتيجة حاسمة بسبب نفي كرامات وعجز واشنطن عن استجواب خان.

* جوبي واريك أسهم في التقرير من إسلام آباد.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»