ظاهرة المماليك

د. محمد عبد الستار البدري

TT

حلت في مارس (آذار) الماضي الذكرى المائتان لمذبحة القلعة الشهيرة عندما جمع محمد علي حاكم مصر المماليك في القلعة ثم أجهز عليهم فتخلص الرجل منهم ومن شرورهم نهائيا. وكما كانت طريقة التخلص منهم فريدة فإن حياة المماليك كانت أيضا فريدة، فهم من أغرب الظواهر السياسية والاجتماعية التي يمكن لأحد الاطلاع عليها في تاريخ الأمم.. لقد بدأت ظاهرة المماليك في مصر خلال فترة الاضطرابات التي تلازمت مع اضمحلال الدولة الأيوبية، حيث لجأت القيادات السياسية لاستيراد الرقيق من المقاتلين كنوع من «الميليشيات» لحمايتهم، ومع مرور الوقت بدأ المماليك يلعبون دورهم الهام في السيطرة على مقاليد الدولة المصرية لا سيما بعد ضعف السلاطين الأيوبيين، حتى آلت إليهم السلطة رسميا فكان السلطان قطز أول سلاطين المماليك واشتهر في كتب التاريخ بموقعة «عين جالوت» الشهيرة، فحمى المماليك الإسلام من شرور المغول، ومن بعده جاء بيبرس الذي ينسب له فضل القضاء بشكل كبير على ما تبقى من معاقل الحملات الصليبية، وقد استمر وجود المماليك كحكام رسميين للبلاد حتى معركتي مرج دابق والريدانية في 1516 و1517 على التوالي مع الدولة العثمانية، ومع ذلك استمر المماليك يحكمون مصر من وراء الكواليس أو بالوكالة حتى مذبحة القلعة.

إذا كان تاريخ المماليك غريبا، فثقافتهم كانت أغرب، فالشعوب أو الفئات الحاكمة يمكن أن تستورد أي شيء من سلع إلى خدمات حتى النساء، ولكن المستغرب له هو أن تستورد هذه النخب استمراريتها من خلال الاستعباد أو الاسترقاق، وهذه ظاهرة تحتاج لتوقف وتحليل على كافة المستويات.

تماما مثل نشأتهم فإن مظاهر حياتهم تضمنت أمراضا سياسية واجتماعية نرصد منها ما يلي:

أولا: أن حكمهم كان بلا مؤسسية واضحة للانتقال السلمي للسلطة، وقد كانت هذه آفتهم الحقيقية التي أضعفتهم على مر القرون الستة التي سيطروا فيها على البلاد فعليا أو بالوكالة، فانتقال السلطة لديهم كان وفقا لكل حالة على حدة ما بين التوريث والعنف والانقلابات والمؤامرات، حتى صار الاغتيال والنفي أفضل الطرق للتخلص من المنافسين، فحتى التوريث كثيرا ما كان يفشل وأمثلة «سولامش» ابن «الظاهر بيبرس» و«بن قلاوون» واضحة، فسرعان ما كان المماليك ينقلبون على ابن السلطان وينفونه، ولكن المستغرب له أيضا أن دولتهم استمرت بفضل قوة الدفع التي ولدها ظهور سلطان قوي بين الحين والآخر استطاع أن يعيد للدولة رونقها وقوتها ويجدد حيويتها، ولكن ليس لمدة طويلة، فسرعان ما يستخلف من هو أضعف منه أو تأتي الفصائل المملوكية بسلطان ضعيف.

ثانيا: تميز المماليك بآفة المؤامرات والقتل والاستغفال، وكافة الخصال التي لا يمكن لأي فئة حاكمة أن تتطور على أساسها، ولكنها سمة ميزتهم عن غيرهم إلى الحد الذي يمكن معه أن نعتبر أن الخسة والغدر والخيانة أصبحت جزءا من جينات هذا النظام السياسي والقائمين عليه، فيكاد لا يخلو المملوك من آفة عدم الولاء أو التآمر على سيده، أو الفتك بأقربائه أو من أحسنوا إليه وغيرها من السلوكيات المتدنية لهذه الفئة التي حكمت مصر - وذلك مع اعترافنا الكامل بإنجازات عظيمة تمت في عهدهم والتي لا تُنكر وعلى رأسها دورهم في كسر المغول والقضاء على بقايا الحملات الصليبية، وتشييد المعمار وتوسيع طرق التجارة وغيرها من الإنجازات التي استفادت منها مصر والعالمين العربي والإسلامي.

ثالثا: حتى بعد هزيمتهم عسكريا على أيدي العثمانيين والقضاء على قيادتهم السياسية، فإنهم لم يندثروا بل انكسروا فقط، واستمروا كأسياد غير رسميين للبلاد إلى أن أصبحوا الحكام الفعليين لمصر تحت القيادة الصورية لدولة الولاية العثمانية فتحولوا من القيادة المركزية إلى قيادة المحليات بلغة اليوم، والمؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي قدم أوصافا لهذا النمط في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» وأورد منها عندما كانوا يحاصرون الوالي العثماني في القلعة ويسيطرون على مجريات البلاد أو عندما استقلوا بحكم مصر مثلما حدث مع على بك الكبير في 1768.

رابعا: أن طريقة القضاء عليهم تظل من الطرق الفريدة في تاريخ الصراعات السياسية، فمذبحة القلعة كانت بالفعل جديدة ولم تستخدم في التاريخ إلا فيما ندر؛ وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن محمد علي ارتعد وهو يرى المماليك يقتلون أمامه في فناء القلعة، كما تؤكد أن هذه الواقعة كان لها أكبر الأثر في نفسيته وأسرته. من ناحية أخرى نفذ السلطان العثماني محمود الثاني نفس الحيلة للتخلص من فيالق الانكشارية بعد محمد علي بحقبتين؛ وبهذا اختلف المماليك في تكوينهم وتميزوا بثقافتهم السياسية البدائية وتفردوا في طريقة تصفيتهم سياسيا وجسديا، أما أولادهم فقد لجأ محمد علي لدمجهم واحتضانهم فصار بعضهم ضباطا في الجيش المصري الحديث.

لا أعتقد أن التاريخ سيأتي بأمثلة المماليك مرة أخرى ففرص ظهور أنظمة مشابهة في عالم اليوم تكاد تنعدم مع مرور الوقت، ولكن المؤكد هو أن لكل شعب مماليكه أو من شابههم قابعين في ذاكرته خلال فترة سياسية مر بها أو مرحلة زمنية أثرت فيه فحُكم خلالها من فريق تميز بالآفات السلبية سابقة الذكر حتى وإن لم يكونوا من العبيد، فسلطة الإقطاعيين في أوروبا عبر العصور أو مجتمع إسبرطة في القرن الخامس قبل الميلاد، أو المجتمعات العسكرية في أميركا اللاتينية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي أمثلة قليلة على ظاهرة متفشية عبر التاريخ. إن أخطر ما في هذه الفئات هو بقاء موروثاتهم السياسية والفكرية بأساليب مختلفة لتتمشي مع كل عصر، مثل «الكرونية الرأسمالية» Crony Capitalism عندما يتم توظيف آليات السوق الحر لصالح فئة بعينها من المقربين للسلطة، أو الأوليجركية السياسية عندما تطبق نخب قليلة على السلطة في البلاد فيصبح حكما «أولجاركيا» بشكل بدائي كما وصفه الفيلسوف اليوناني أرسطو في كتابه «عن السياسية» أو عندما يتحول الفساد إلى مؤسسية الخ..

حقيقة الأمر أن أساس المشكلة لم - ولن تكون - في الأشخاص أو الفئة كما كان حال المماليك، فالتركيبات الاجتماعية والسياسية تتغير ويمكن تفكيكها بطبيعة الحال كما حدث مع المماليك، ولكن موروثات هذه النخب هي مكمن الخطر، فهي تحتاج لنهضة بشرية ولأجيال تتمتع بوعي ثقافي وفكري وتاريخي للتغيير ولاستئصال هذه الآفات السلبية من مجتمعاتها للوقاية منها، وإلا فسنكون قد تعلمنا من أخطاء الماضي كيف نصنع أخطاء اليوم.

* كاتب مصري