«أنا نازل الميدان».. مفرد بصيغة «الشعب»

يتبادله المصريون كتحية الصباح

TT

«نازل الميدان».. قالها شاب لزميله عبر هاتفه النقال، ثم أردف بحماس استرعى انتباه ركاب الحافلة العامة «كلنا هنتجمع تحت المظلة الرئيسية.. شعارنا واحد.. إيد واحده». ولم يكد الشاب ينهي مكالمته، حتى صاح رجل عجوز يجلس في آخر الحافلة : «أنا أيضا نازل الميدان»، ثم نهض من مقعده مخاطبا ركاب الحافلة: «كلنا لازم ننزل الميدان، الثورة ثورتنا ولازم نحميها، مستحيل نتفرج عليها وهي بتتسرق قدام أعيننا».

كلام الرجل العجوز وأسلوبه الهادئ استفز أحد الأطفال، فتسلل من جوار أمه، وذهب إلى الرجل يرجوه» والنبي ياعمو خلي أمي توديني الميدان.. أنا بحب مصر وعاير أنزل الميدان». و في محاولة لحسم الحوار بادرت الأم قائلة « إحنا فعلا نازلين الميدان ، بس بعد العصر ، لما الحر ينكسر شويه.. لكن الأستاذ – تقصد ابنها- طالع ثورجي وعايز ينزل دلوقت حالا».. سألها أحد الركاب عن عمره ، ردت بزهو في الصف الثالث الابتدائي . أجابها الرجل بجدية لا تخلو من نبرة مزاح : ابنك راجل، خليه يشرب الوطنية من نبعها الحقيقي صدقيني هيفرح وينبسط وسط المتظاهرين، دول شباب زي الورد». بعيدا عن الحافلة، وعلى صفحات الفيس بوك وتويتر ومواقع التواصل الاجتماعي وعلى جدران الشوارع والميادين والبيوت، بدا شعار «نازل الميدان» كتميمة شعبية وخبز يومي للمصريين، يتبلور هنا وهناك في صيغ وعبارات ودلالات متنوعة سياسيا واجتماعيا، ويشتد عوده كميثاق شرف، وعناقيد غضب يتسابق معظمهم على إنضاجها وقطفها في كرنفال جماعي، يستعيدون به ثورتهم التي تتعثر مراكبها في بلوغ شاطئ الأمان.

ومن جمعة إلى أخرى يتجدد هذا الشعار، حتى أصبح بمثابة صك الدخول للمشاركة في مظاهرات الغضب سواء بميدان التحرير، مسرح عمليات الثورة بالعاصمة القاهرة، أو إلى ميادين أخرى بالمحافظات.. لكن صلاح أستاذ التاريخ، بأحد المدارس الثانوية بضاحية مصر الجديدة بالقاهرة، يرى أنه ليس مجرد شعار، بل أصبح ضرورة وجود وحياة، ويقول: إن المصريين، اسقطوا النظام السابق في 18 يوما، وهو رقم غير مسبوق في عمر الثورات الشعبية في العالم ، ومن حقهم أن يحصدوا ثمار هذه الثورة بسرعة، بدلا من حالة التراخي والبطء ، التي أصبحت سمة أساسية في التعاطي مع مطالب الثورة ، سواء من قبل المجلس العسكري الذي يدير دفة الأمور في البلاد أو من قبل الحكومة المنوط بها تيسير الأعمال».. يتابع أستاذ التاريخ «الميدان هو الضمانة على أن الثورة باقية وحية حتى تتحقق كل المطالب». بعد آخر تضيفه إلى شعار «نازل الميدان» ثريا حسن، موظفة بأحد شركات المقاولات الخاصة، وأدمنت الذهاب لميدان التحرير هي وطفليها الصغيرين تقول: «أنا أعتبر نفسي في نزهة ترفيهية، وجودي وأولادي بالميدان وسط هتاف المتظاهرين يشعرني بالدفء والراحة، ولا أشعر بالخوف، كما أن كل شيء متوافر بالميدان حتى لعب الأطفال، وهذا يجعله مكانا ممتعا». وبين هذا وذاك يشعر الكثير من المصريين أنهم لا يزالون تلامذة في مدرسة الثورة، وأن هذا الشعار يشكل في وجدانهم أداة مثلي لخوض امتحان مزدوج، يختبرون في ظلاله أنفسهم أولا والثورة ثانيا.. فمثلما يقول «ناصر»، طالب جامعي: «هذا الشعار سلاحي المستمر لاختبار الثورة فإذا لم تتحقق المطالب فالميدان موجود». ولا يخفي ناصر أن هذا السلاح – الشعار، ينطوي ضمنيا على نزعة تهديد، لكنه يبرر ذلك بأنه « تهديد بريء، لأنه شعار سلمي في الأساس ويستمد ذلك من طبيعة الثورة نفسها».. ثم يصمت للحظة، وينظر في ساعته، ويودعني قائلا: «دعنا نكمل الحديث في الميدان»، ثم يتسم وهو يهم بالانصراف «عفوا أنا نازل الميدان».