استمرار الجمود السياسي بمصر يمنح الإسلاميين فرصة لحكم البلاد

التيار اليساري: المتاجرة بشرعية الثورة تقلل فرص دعاة الدولة المدنية

مصرية تمر بجانب متظاهرين في ميدان التحرير لليوم الرابع على التوالي، أمس، يرفعون المصحف والصليب تعبيرا عن التضامن من أجل الوحدة الوطنية (أ.ف.ب)
TT

من بين عشرات الألوف، يتوجه المئات من طلاب الدولة المدنية في مصر مساء للترويح عن أنفسهم بعد الاعتصام طيلة النهار مع الجموع تحت قيظ حر القاهرة. بعضهم يدخن الشيشة على مقاهي منطقة البورصة القريبة من ميدان التحرير، الذي يشهد بين يوم وآخر تجمعات احتجاجية ضخمة، وبعضهم يتجه لكورنيش النيل الذي يبعد نحو مائة متر عن الميدان الشهير. وتواجدت «الشرق الأوسط» فوق مركب على النيل، مع مجموعة من هؤلاء، وكان غالبيتهم من ذوي التوجهات الاشتراكية واليسارية، وبدا أن لديهم مخاوف قوية من حكم الإسلاميين مصر قريبا، بالتحالف مع الطبقة التي كانت تنتفع من نظام مبارك.

ويعتقد هؤلاء الشبان، الذين يفتقرون إلى الخبرة السياسية ويتمتعون بحس يعينهم على استشعار المستقبل، أن التيار الإسلامي والمنتفعين من النظام السابق، يعززون استمرار الفوضى في البلاد، حتى تضيع أصوات المطالبين بدستور مدني. ومن هؤلاء، منى حسن، وهي اشتراكية تبلغ من العمر 27 عاما وترتدي الحجاب ومسؤولة عن جانب من إعاشة الثوار في ميدان التحرير. وتقول أيضا «إن التيار الديني وطبقة المنتفعين من أيام نظام مبارك، أصبحوا يستخدمون ذكاءهم لشغل الناس من أجل الوصول لموعد الانتخابات البرلمانية، في سبتمبر (أيلول) المقبل، وعندها سيحتلون البرلمان عبر صناديق الاقتراع ويضعون الدستور الإسلامي الذي يريدونه. ولأنني سأعارضهم كوني سياسية اشتراكية، أتوقع أن يتهموني بالكفر على الرغم من أنني مسلمة ملتزمة».

كان صخب الميدان طيلة النهار موجعا وممضا. والدعوات للعصيان والإضراب العام لا تتوقف، وكانت الأنباء تصل عن وقوع اشتباكات في مدن أخرى حول القاهرة، منها السويس الحيوية في مرور السفن حول العالم. لا يوجد قائد ولا توجد أهداف موحدة. كان كل عدة مئات يزعقون في جانب، أما أنصار التيار الإسلامي، كـ«الإخوان» والسلفيين، فقد اختفوا من الميادين ومن سهرات الثوار الليلية أيضا، بعد أن كانوا في الأيام الماضية يملأون الشوارع بصيحات الله أكبر، والإسلام هو الحل، ونعم للانتخابات أولا ولا للدستور أولا.

«إذا جرت انتخابات البرلمان قبل وضع الدستور، فقل على الدولة المدنية السلام». يقول أحمد بلال عضو اتحاد الشباب الاشتراكي المصري. وكان وجهه ولحيته السوداء ينمان عن قلق متزايد وهو يتأرجح مع حركة المركب فوق المياه. ويضيف أن الترويح عن النفس في هذه الظروف الصعبة أمر مطلوب استعدادا لـ«أيام النضال المقبلة»، مشيرا إلى أن اتحاد الشباب الاشتراكي تم تشكيله بعد ثورة 25 يناير، ويضم شباب اليسار المنخرطين في أحزاب ومن خارج الأحزاب أيضا. وتوجد عشرات الائتلافات الأخرى التي انبثقت من الثورة، وكانت تعمل في انصهار شبه كامل مع التيارات والأحزاب الأخرى، ومنها جماعة الإخوان المسلمين، التي تعد من كبرى الحركات حشدا وتنظيما في البلاد. لكن وبسبب تأخر الإصلاحات الجذرية على أرض الواقع، وطول أمد التحقيقات في التهم الموجهة لمبارك ونجليه علاء وجمال، وعشرات المسؤولين السابقين، بدأت التحالفات تتفكك وتتباعد، مثل ابتعاد مراكب التنزه عن الشاطئ، وسط اتهامات متبادلة بالمتاجرة بشرعية الثورة ومستقبل واحدة من أهم دول منطقة الشرق الأوسط.

ويعتقد مسؤول في الحكومة المصرية أن ما يسهم في جمود الموقف السياسي الراهن، الذي «يتحرك أحيانا ببطء شديد»، رغبة المجلس العسكري الحاكم، في اتباع الخطوات التي أعلن عنها سلفا، بشأن تسليم السلطة للسياسيين خلال الأشهر المقبلة. ومن هذه الخطوات إجراء الانتخابات البرلمانية الشهر بعد القادم، يليها انتخابات الرئاسة ووضع دستور جديد، بالتزامن مع استمرار السلطات القضائية في نظر القضايا المرفوعة ضد المسؤولين السابقين وعلى رأسهم مبارك. ويقول غالبية شباب التحرير من اليساريين إن هذه الخطوات ستؤدي إلى سيطرة الإسلاميين على الحكم في نهاية المطاف، وإن الأمر أصبح يتطلب مراجعة بعض الأمور، منها أن يكون وضع الدستور أولا.

وانتشرت مثل هذه المخاوف التي ذكرها بلال على صفحات العديد من الصحف المحلية، لكن جماعة الإخوان ردت بأن من يطالب بهذا «صهيوني». وزاد هذا الرد، وردود أخرى متطرفة من جانب قيادات في جماعة الإخوان مخاوف طلاب الدولة المدنية، لكن يبدو أن الأسلحة التي يستخدمها التيار اليساري والمدني ما زالت ضعيفة في ما يتعلق بحشد الجماهير والإنفاق المالي، مقارنة بجماعة الإخوان والمتحالفين معها من بعض قيادات الليبراليين. حين دعت القوى المدنية واليسارية لمظاهرات مليونية للمطالبة بـ«الدستور أولا»، رفض التيار الديني وجماعة الإخوان الانخراط فيه، لكن عادت ودخلت على خط المظاهرات، وتقول منى حسن: «تمكنت الجماعة من حشد عشرات الألوف من أنصارها وتغيير الشعار من الدستور أولا إلى الثورة أولا، ثم انصرفت من الميدان، وتركتنا، دون أن نتفق على ماهية الخطوات التي تجعل الثورة أولا بالفعل. أعتقد أن ما يحدث من جانب (الإخوان) هو تعطيل حركة دعاة الدولة المدنية، ومحاولة خلق فوضى لشغل البلاد عن إعادة ترتيب المستقبل للصالح العام». ومن فوق مياه النيل ترى مبنى محترقا ومظلما فوقه لافتة ضخمة سليمة وواضحة تقول «عشان تطمن على مستقبل ولادك». هذا الشعار كان يدعو للثقة بحزب مبارك، قبل أن تطيح بحكمه الثورة، وما صاحبها من احتجاجات مليونية أسفرت عن حرق مقرات حزبه ومباني جهاز أمن الدولة الذي كبح لعقود تمدد الإسلام السياسي في مصر. وبعد أن استغرقت دقائق في التطلع لمشهد اللافتة، قالت منى حسن: «كل شيء توقف.. لا المبنى أعيد طلاؤه ولا اللافتة أزيلت. هذا يدل على ما نحن فيه.. الجمود». ومنذ الإطاحة بنظام مبارك، خسرت البورصة المصرية ملايين الدولارات، وأغلقت العديد من المصانع أبوابها، ولم يتحقق الرفاه للمواطنين. ولما كان غالبية الثوار اليساريين فقراء بشكل عام، فإن بقاءهم في الميادين يرهقهم ماليا ويسبب لهم مشاكل اجتماعية مع أسرهم. وبدأت تظهر ضغوط لإقناعهم بالعودة إلى بيوتهم، انتظارا للتحول الديمقراطي، كما تقول منى حسن.

ويزيد بلال قائلا: «لا يمكن الحديث عن أي تحول ديمقراطي دون الحديث عن أساس هذا التحول. لا يمكن أن تنشغل القوى السياسية بتقسيم كعكة الثورة على نفسها، وتنسى الأساس الذي سيحدد الديمقراطية.. للأسف الفريق الذي يدعم توجه انتخابات البرلمان أولا هو الأكثر تنظيما؛ أي «الإخوان» حزبا وجماعة، وباقي الإسلاميين، وفلول حزب مبارك».