«جدة زمان».. معرض تراثي بطول 600 متر يخترق أحد مجمعات «عروس البحر» التجارية

في محاولة لتوثيق الموروث الحجازي القديم

مشاركة في المعرض ترسم مشاهد من الحياة في جدة (تصوير: غازي مهدي)
TT

أحداث كثيرة عاصرتها مدينة جدة خلال السنوات القلائل الماضية والتي من ضمنها انهيار 12 مبنى في المنطقة التاريخية القابعة بقلبها، والعديد من الحرائق، وكارثة تكررت بنسختين كانت كل منهما أصعب من الأخرى، إلى جانب استبعاد منظمة اليونسكو لها وعدم إدراجها ضمن قائمة التراث العالمي. كل تلك الأمور فشلت في أن تبعث الإحباط داخل نفوس أبنائها وبناتها، بل كانت مجرد أدوات استخدموها لإعادة تزيين «عروسهم» التي قد اعتبرها الكثيرون «عجوزا مسنّة»، مما جعلهم يعيدون إليها «الروح الحجازية» العتيقة، والمعطّرة برائحة «المستكة» الجداوية.

ومن داخل أحدث المراكز التجارية في جدة، تفجّرت طاقات ما يزيد على 20 شابّا وفتاة تطوعوا من أجل تحويل أحد ممرات مجمع «ردسي مول» إلى متحف حجازي متكامل بإمكانات بسيطة، في محاولة منهم لتوثيق الموروث الحجازي القديم أمام أنظار جيل شبابي تشبّع بالحداثة.

دعاء ثابت، صاحبة فكرة معرض «جدة زمان» الذي انطلق منذ نحو أربعة أيام ويستمر حتى الخميس المقبل في ممر يتجاوز طوله 600 متر، أفادت بأن فكرتها جاءت بعد أن رأت أحد الفنانين التشكيليين السوريين يوثّق تاريخ بلده بالرسم، مما جعلها تربط بين ذلك والأحداث التي عاصرتها جدة.

وقالت في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «بدأت أشعر بإمكانية ضياع تاريخ مدينتنا، خصوصا بعد وفاة أشهر مؤرخيها محمد صادق دياب، إضافة إلى افتقارنا لتقنيات الأفلام الوثائقية والمسلسلات التي من شأنها أن ترسخ هذا التاريخ، مما جعلني أستغل الفن التشكيلي لذلك، خصوصا أننا نتعرف على الموروثات العالمية من خلال اللوحات والرسومات والمتاحف وغيرها».

وذكرت أن منطقة الحجاز بشكل عام تمتلك مجموعة من الأدوات التي إن اجتمعت بإمكانها توليد التراث مجددا، والمتمثلة في التحف الأثرية والحكواتي والمجسّات الحجازية والصور واللوحات وغيرها، مبينة أن منظمي المعرض قاموا بجمع أكبر عدد من الفنانين التشكيليين للمساهمة في حدث وصفته بأنه إحدى وسائل توثيق تاريخ جدة.

ولفتت إلى أنه من المتوقع استقطاب ما يقارب 100 فنان تشكيلي، حيث أنه حتى الآن بلغ عدد المشاركين منهم نحو 40 فنانا، تم اختيارهم وفق معايير احترافية على خلفية سيرتهم الذاتية أو حصدهم لجوائز عديدة في مناسبات مختلفة، مؤكدة على رغبتهم في الوصول إلى جودة عالية بالنسبة للوحات الناتجة.

تجمّع هؤلاء الفنانين ليس لمجرد التعبير عن ما تجود به مخيلتهم من عشق لموروثهم الثقافي فحسب، وإنما من أجل الاشتراك بمسابقة للخروج بأفضل لوحات مرسومة تؤهلهم للمشاركة في معرض «جدة زمان» ليس لتحقيق الجوائز أيضا، بل بهدف رد جميل كبير يرون بأنهم مدينون فيه لـ«عروسهم».

ذلك الحدث الحي الذي اجتمع الفنانون التشكيليون فيه ليوثقوا بريشتهم تاريخ جدة أمام أعين الموجودين، يعيش من خلاله الزائر أوقاتا ممتعة تزينها ألحان الفنان طارق عبد الحكيم بصوت فوزي محسون أشهر فناني منطقة الحجاز، ليصدح بمجموعة أغان حجازية لها وقع في النفس.

وتدور مواضيع لوحات الفنانين حول العادات والمناسبات الحجازية القديمة والصناعات والحرف والتعليم والأطعمة وأدوات المنزل والمباني العتيقة والألعاب الشعبية والموسيقى والفنون، إلى جانب تجسيد مراحل بداية دخول التقنية والإعلانات المطبوعة، وصور لمظاهر الحياة العامة في منطقة الحجاز. وبالعودة إلى دعاء ثابت، فقد أشارت إلى أن فعالية «جدة زمان» تحوي نحو ثلاثة أركان، والمتمثلة في ركن لعرض قطع حجازية عتيقة من رواشين وسجاد وغيرها تم جلبها من متحف عبد الرؤوف خليل، وآخر يحوي الأدوات المنزلية القديمة والتي شارك فيها متحف الدينار الإسلامي، عدا عن ركن ثالث للمجسّات الحجازية والحكواتي والزفّات.

واستطردت في القول: «نعمد تخصيص فعاليات متنوعة وفقرات متجددة في كل يوم، حيث تتضمن تلك الفعاليات تعريف الزوار بعادات الزواج وحفلات الأعراس الحجازية ومظاهر الشعبنة ورمضان والعيد والألعاب الشعبية وغيرها، وذلك ضمن عروض حيّة».

وفيما يتعلق بمدى إقبال الجمهور على الفن التشكيلي بشكل عام، أبانت صاحبة فكرة معرض «جدة زمان» أن ما يميز هذا المعرض هو عروض حركية وحيوية، وعدم اقتصاره على اللوحات والرسم فقط، إضافة إلى اختيار إقامته داخل مركز تجاري بهدف استهداف عامة الناس وليس فقط فئة الفنانين التشكيليين.

ولكنها استدركت قائلة: «على الرغم من وجود التعاون الكبير الذي لمسناه من قبل بعض الجهات، فإننا لم نجد رعاة كثيرون، حيث إننا تقدمنا بطلب رعاية لنحو 100 شركة ولم يتجاوب معنا سوى اثنين منها». من جهتها، أوضحت فاطمة باعظيم الفنانة التشكيلية السعودية وإحدى منظمات معرض «جدة زمان» أن أركان المعرض تحوي أيضا فوانيس قديمة وصورا للمجالس المنزلية الحجازية التراثية، لافتة إلى إمكانية إقامة متحف كامل في أي مكان بجدة غير أن ذلك يتطلب توفير وسائل السلامة.

وقالت لـ«الشرق الأوسط»: « يشتمل المعرض أيضا على ركن لتقديم المأكولات الحجازية القديمة والتي من ضمنها (المنتو) و(المطبق) و(المعصوب)، والتي يتم تقديمها من قبل أحد المطاعم الحجازية الشهيرة بجدة»، موضحة أن معظم الداعمين للمعرض هم ممن يرتبطون بعنصر الماضي بشكل مباشر. وبالنسبة لفعاليات الأطفال، أفادت باعظيم بتخصيص ركن للألعاب الحجازية الشعبية، وآخر للرسم والتي يشرف عليها مجموعة من الأطفال المتطوعين أيضا، عدا عن عروض مصوّرة وتجسيد لشخصية «عمّو حكيم» الحجازية أيضا، مؤكدة أن معرض «جدة زمان» يعد دافعا لاستقطاب كبار السن أيضا ممن يرغبون في معاودة الحنين إلى الماضي واستعادة الذكريات القديمة.

وزادت: «سيستمر المعرض خلال شهر رمضان من الساعة الخامسة عصرا وحتى الحادية عشرة مساء، حيث سيتم توزيع الهدايا أيضا على الفائزين في مسابقة الرسم الحي، فضلا عن فرقة شاملة للحكواتي والمجس والزفة الحجازية القديمة، كونها جاذبة للكثير من زوار المجمع خاصة القادمين من خارج مدينة جدة». وبيّنت أن التجهيز للمعرض استغرق نحو خمسة أشهر من التخطيط المستمر، إلا أن تنفيذه فعليا لم يأخذ أكثر من يومين فقط، خصوصا أن تكاليفه كانت على حسابهم الشخصي، مما يجعلهم يطمحون إلى استقطاب رعاة من رجال الأعمال الذين ينتمون إلى عائلات حجازية عريقة ذات تاريخ معروف، وذلك من أجل تطوير المعرض ليكون حدثا سنويا وتنظيمه بشكل أكبر يشمل سرد تاريخ تلك العائلات المشهورة في منطقة الحجاز.