مي باشي: نظر بعضهم إلى مغامرتي بتحويل منزل قديم إلى فندق على أنها نوع من الجنون

المعمارية السورية الإيطالية كان لها السبق في ترميم وإطلاق أول فندق تراثي بـ«دمشق القديمة»

«بيت المملوكة».. التجربة الرائدة
TT

قبل منتصف تسعينيات القرن المنصرم كانت حارات «دمشق القديمة» في العاصمة السورية القديمة تعيش بهدوء وسكون تام حتى جاء عام 1994، وفيه افتتحت أول كافيتيريا في هذه الحارات، هي «بيانو بار». ومن ثم افتتح أول مطعم وهو «اولتان» بنهاية التسعينيات ثم «كرّت السبحة»، فانتشرت في أزقة «المدينة القديمة» وحاراتها عشرات المطاعم والكافيتيريات، مع أن الأمر ظل محصورا بزبائن يجلسون في هذه المطاعم لساعات قليلة ويمضون بعدها لعملهم ومنازلهم.

الوضع تغير في عام 2004 الذي شهد ولادة أول فندق في «دمشق القديمة» على يد مهندسة معمارية سورية، إيطالية الأصل، هي مي بندقي معمار باشي. وبالمناسبة، عائلة مي تنحدر من مدينة البندقية الإيطالية، ومن هنا تسمية «بندقي»، لكنها هاجرت مع عدد من الأسر الإيطالية خلال القرن التاسع عشر إلى مدينة حلب عاصمة الشمال السوري.

المغامرة بتحويل منزل تقليدي جميل يعود إلى القرون الوسطى إلى فندق، جعلت زوار «دمشق القديمة» وزوارها لا يكتفون بتناول الطعام وشرب الشاي والقهوة في مطاعمها ومقاهيها كانت لافتة فعلا. لكن مي بندقي معمار باشي أسست بالفعل أول فندق تراثي في منطقة باب توما (بشرق «دمشق القديمة»)، وتحديدا في حي القشلة الشهير، وأطلقت عليه اسم «بيت المملوكة». ويتميّز هذا الفندق التراثي بامتلاكه واحدا من ثلاثة أجمل سقوف في قصور العاصمة السورية ومنازلها ويعود تاريخه لعام 1830م. وكان «بيت المملوكة» في الواقع بداية لظاهرة شهدت حتى الآن تأسيس ما لا يقل عن 30 فندقا ونزلا تراثيا في حارات «دمشق القديمة»، وخاصة منطقة القشلة.

وربما لأن مي بندقي، التي هي في أواسط الخمسينيات من عمرها، امرأة مغامرة في تاريخها الشخصي وبطبيعتها، إذ إنها منذ مطلع شبابها وحتى الآن تمارس أصعب الرياضات الشخصية ألا وهي تسلق الجبال والقمم - ولقد قهرت بالفعل بعض أعلى القمم في العالم - فإنها اختارت المغامرة في نشر الفنادق التراثية في «دمشق القديمة».

سبب آخر دفعها على ذلك هو دراستها فنون العمارة الإسلامية في الجامعات البريطانية، مما شجعها على الدخول في هذه المغامرة، أضف إلى سبب ثالث محتمل هو زواجها من رجل ذي أصول تركية (من مدينة ماردين) كان أجداده من أمهر المعماريين في تركيا، وهم معماريو «الباب العالي» - أي السلطان العثماني -، وقد منحهم أحد السلاطين لقب «باشا العمارة».. أو «معمار باشي» - أو ميمار باشي، كما تلفظ بالتركية -.

وبطبيعة الحال، كان توافر المال اللازم عنصرا مساعدا لإنجاز المغامرة بنجاح، على الرغم من تشكيك الصديقات والأصدقاء.

وحقا نجحت المغامرة، وصار فندقها الأول ظاهرة رائدة نسج على منوالها العديد من المستثمرين، الذين باشروا ترميم المنازل القديمة لتحويلها إلى فنادق. أم مي بندقي فلم تكتف بما أنجزته، بل واصلت عملها في مشاريع أخرى بـ«دمشق القديمة»، فقررت تحويل منزل في حارة الزيتون، قرب أجمل موقع في المنطقة حيث الشارع المستقيم وباب شرقي إلى مكتب لها. وهذا بالفعل ما فعلته قبل بضعة أشهر. وهكذا تحوّل المنزل من مسكن مهجور إلى مكتب واسع أنيق ببحرة (بركة) وفسقية (نافورة) وزخارف إسلامية وعربية، وصولا إلى تحف القاشاني.

مي، روت لـ«الشرق الأوسط» مشوارها مع العمارة الإسلامية والعربية ومغامراتها المعمارية والاستثمارية فقالت: «عندما عدت من دراستي الجامعية للعمارة الإسلامية عام 1999 من لندن حيث درست في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية (سواس) بجامعة لندن، لم يكن لدي برنامج عمل محدد. غير أن زوجي، وهو صناعي ولا علاقة له بالعمارة رغم انتمائه لأسرة معمارية عريقة، اقترح علي أن أشتري منزلا في (دمشق القديمة) وأرمّمه، ومن ثم أحوّله إلى منشأة سياحية. وعندما بدأت البحث عن المنزل المطلوب عرض علي شراء أكثر من مائة منزل، وكان الجميع يسألونني عما أريد فعله لكنني لم أكن أجيبهم كي لا يسرقوا الفكرة التي كانت تجول في بالي وهي تحويل المنزل بعد ترميمه إلى (بوتيك أوتيل)، إذ لا يوجد في (دمشق القديمة) منشآت من هذا النوع مطلقا».

وتابعت «وبعدما وفّقت في الحصول على المنزل المناسب، وكان يضم 13 غرفة، عملت على لمّها وتجميعها بعد الترميم فصارت ثماني غرف. ومن ثم بدأت العمل باستصدار رخصة الترميم حسب الأصول، مع أنني احتجت لـ18 لإقناع المعنيين والمتابعين بإمكانية تحويل بيت دمشقي إلى فندق».

وأضاف مي - ضاحكة - «هناك من ذهب لزوجي وقال له (ماذا تفعل زوجتك) إنها تضع أموالها في منزل لتحوله إلى فندق... أليس هذا نوعا من الجنون؟!.. لكنه كان يردّ عليهم بالقول: مي تعرف ماذا تفعل والجنون فنون والقاضي راضي!.. وبالفعل حصلت على الموافقات المطلوبة من الجهات المسؤولة، وكان همّي الأول أثناء الترميم أن أعيد البيت إلى رونقه الأساسي، وبالمواد المعمارية القديمة التي تعود للقرن الثامن عشر م. بل حرصت مثلا على أن يكون كل شيء يجري فكّه من البيت ويعاد ترميمه يرمم بالمواد الأساسية مع المحافظة على زخارفه الجميلة. وعندما أنهيت أعمال الترميم شاهده من كانوا ينتقدونني فأعجبوا بما حققته وقرروا تقليدي. وبعضهم اقترح علي المشاركة به في جائزة الآغا خان الدولية للعمارة. وفعلا، جاء وفد من مؤسسة الآغا خان ليرى كيف كيف رممت المنزل بطريقة فنية جميلة، وكيف استطعت تحويله إلى فندق يندمج في نسيج محيطه بـ(دمشق القديمة) معماريا واجتماعيا».

سألنا مي.. ما هو الهدف من مثل مشروع تحويل منزل إلى فندق؟

فأجابت «غايتي وهدفي هو إعادة الناس لهذه المنطقة. فمن خلال الفنادق تعود الناس لتنام في (دمشق القديمة)، ومعنى هذا أن هذه الحارات عادت لتعيش كسكن وليس فقط كمطاعم يجلس الناس فيها لساعات قليلة. يهمني أن يعيش النزيل في هذه الفنادق عادات ومزايا الشام القديمة التي افتقدت في الأحياء الجديدة ومنها التعاون بين الجيران والإيثار والمحبة والألفة».

وعن «الفورة» في تأسيس الفنادق والمطاعم بالمنطقة، قالت معلقة «أنا لا أقول إنها ظاهرة أو فورة، بل هي أمر طبيعي. ما نقدمه للسائح الأجنبي من خلال هذه المنشآت هو طريقة معيشتنا في الأزمنة القديمة، وفي غرف وبيوت متميزة بتصاميمها وعمارتها ومكوّناتها.. حتى حمامها ومطبخها. ثم إن هذه المنشآت تتيح لهؤلاء السياح الذين يتنقلون بواسطة السيارات والحافلات التجوّل سيرا على الأقدام في حارات وأزقة (دمشق القديمة) ليصلوا إلى فندقهم ومطعمهم، وأن يطلعوا على كل أوابد العصور المختلفة».

وأخيرا، حول الجديد لديها في أعمال الترميم، قالت «لقد انتهيت قبل فترة من ترميم منزل حوّلته إلى مكتب معماري، والجديد فيه أنني أدخلت المعاصرة في التراث. فهناك لمسات عصرية في بنائه مع المحافظة على الأسس المعمارية القديمة والمفردات التي منها البحرة والجدران، بيد أنني غيّرت الخشب واستخدمت اللون الرمادي في النوافذ بدلا من اللون البني كما هو حال معظم البيوت القديمة. وقد انتقدني كثيرون لهذا الإجراء، لكنني كنت أجيبهم بكل ثقة من خلال معلومات مؤكدة أن نوافذ البيوت الدمشقية القديمة لم تكن في السابق تطلى باللون البني، ولكن في عام 1980 صدر قرار عن السلطات المحلية بطلي تلك النوافذ باللون البني بعدما كانت قبل ذلك التاريخ تطلى بألوان متنوعة كالأزرق والأخضر الفستقي والفيروزي ولم يكن هناك اللون البني. إنه فرض فرضا على (دمشق القديمة) فلماذا نصر عليه؟ لذا قررت تغيير هذا التقليد المفروض قبل 30 سنة وجعلت اللون رماديا. أيضا أعمل حاليا على ترميم منزل دمشقي قديم لتحويله إلى فندق ولدي مشروعان مماثلان لـ(بيت المملوكة) كـ(بوتيك أوتيل) في العاصمة اللبنانية بيروت وفي إيطاليا».